من المؤكد أن الحرب الكارثية تمثل أس وجذر الأزمات التي يواجهها اليمن، فخلال فترة الحرب تعيش الدولة اليمنية أزمة إنسانية هي الأسوأ في عالمنا المعاصر، كما أن المجتمع اليمني يواجه أزمة سياسية معقدة دون وجود أفق للحل، إضافة إلى ذلك هناك أزمة اقتصادية مستفحلة مسببة ركوداً في النشاط الاقتصادي، وتدهوراً في القوة الشرائية للعملة، وارتفاعاً بمعدل التضخم، وتنامي ظواهر الفقر والبطالة وسوء الأوضاع المعيشية للسكان، وفوق ذلك تعميق التشطير الاقتصادي بين مناطق صنعاء وعدن، وأبرز مظاهره هو الانقسام النقدي والمصرفي وتعدد سعر الصرف والعملات، وهو ما أوجد حالة من الإرباك وعدم اليقين لأصحاب الأعمال وعامة الناس في مناطق طرفي الصراع.
لقد كانت الأوضاع الاقتصادية في اليمن قبل الحرب شبه مستقرة، وكان هناك تناغم وتنسيق بين السياسات المالية والنقدية والتجارية، كما أن معظم المؤشرات الاقتصادية كانت عند المستوى المقبول، بسبب برامج الإصلاحات الاقتصادية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة منذ عام 1995، ومع اندلاع الحرب في بداية عام 2015، برزت ملامح الأزمة الاقتصادية، وتنامى الانقسام النقدي بالتدريج، حيث ساهمت كل من سلطتي صنعاء وعدن في توسيع هذا الانقسام وتعقيده بأدوار متفاوتة خلال مراحل زمنية متتالية ومتداخلة من فترة الحرب.
مرحلة التدهور المحدود
خلال الفترة 2015-2016، توقفت صادرات النفط والغاز، وبالتالي تراجعت بشكل كبير عوائدها من النقد الأجنبي، كما تجمدت السحوبات من القروض والمساعدات لتمويل المشاريع التنموية، كل ذلك أدى إلى الانخفاض الحاد في حجم الاحتياطيات من النقد الأجنبي لدى البنك المركزي في صنعاء، رغم أن البنك استمر في تسديد أقساط القروض الخارجية للجهات المانحة، وصاحب ذلك شبه شلل في أجهزة الدولة، بما فيها الجهات الإيرادية، مثل الضرائب والجمارك، نجم عنه تراجع حاد في الإيرادات العامة، مسبباً زيادة العجز في الميزانية العامة للدولة.
وخلال تلك الفترة، تولى البنك المركزي في صنعاء القيام بإدارة كل من السياسات النقدية والمالية، رغم أن الأخيرة من اختصاص وزارة المالية، فقد ظل البنك، من ناحية، يدير سعر الصرف معتمداً على الرصيد المتاح للاحتياطيات من النقد الأجنبي ويدير السيولة النقدية بما هو متاح من النقد المحلي، وعدم قدرته على طباعة نقود جديدة، بسبب رفض سلطة عدن الموافقة على ذلك.
ومن ناحية أخرى، تمسّك البنك المركزي بميزانية 2014، المعتمدة وفقاً للدستور والقانون، كإطار مالي لتغطية النفقات العامة للدولة، معطياً الأولوية لصرف رواتب موظفي الدولة في كل الجهات (الجهاز المدني والأمني والعسكري)، وفي جميع المحافظات من المهرة حتى صعدة وحجة، مع تخفيض الإنفاق على بنود التشغيل والإعانات، وتجميد الإنفاق على المشاريع الاستثمارية، وظل البنك يمول النفقات العامة للدولة بالسحب على المكشوف للحكومة حتى استنفد الاحتياطيات من النقد المحلي المتوفرة لديه، بينما على الجانب الآخر، كانت سلطة عدن تعيش في بعض عواصم الدول المجاورة، وتمول نفقات موظفيها من مصادر التمويل الخارجي، وتحديداً من دول التحالف (السعودية والإمارات)، وفقاً لسلم أجور وبنود إنفاق مختلفة، ومقوّماً بالدولار أو بالريال السعودي أو بالدرهم الإماراتي.
وخلال تلك المرحلة، برزت ملامح الأزمة الاقتصادية المتمثلة في التراجع الحاد للنمو الاقتصادي إلى المستويات السالبة، ونفاد الاحتياطيات من النقد الأجنبي، وهو ما نتج عنه تدهور محدود في القوة الشرائية للريال، فقد تصاعد سعر الصرف مع نهاية عام 2016، بحدود 50%، عما كان عليه في 2014، (كان سعر الصرف يساوي 215 ريالاً للدولار)، وأدى هذا إلى زيادة أسعار السلع المستهلكة، وخاصة المستوردة، بالمعدل نفسه، كما ظهرت بوادر أزمة السيولة النقدية لدى الجهاز المصرفي، حيث فرض البنك المركزي سقوفاً على السحوبات من الأرصدة لديه للبنوك والمؤسسات العامة، كما أن البنوك، أيضاً، فرضت سقوفاً على السحوبات من الودائع لديها للعملاء من الشركات ومن الجمهور.
ومع منتصف عام 2016، كان البنك المركزي بصنعاء على حافة الإفلاس، فقد تراجعت الاحتياطيات الدولية من النقد الأجنبي، ولم يعد قادراً على إدارة سعر الصرف، كما تراجعت الاحتياطيات من النقد المحلي لدرجة عدم قدرة البنك على تغطية نفقات الرواتب.
وتزامناً مع ذلك، أصدرت سلطة عدن قراراً بتعيين محافظ للبنك المركزي ونائب ومجلس إدارة، ومعنى ذلك نقل إدارة البنك إلى مدينة عدن، العاصمة المؤقتة، مع الصلاحيات الممنوحة له بالإصدار النقدي وإدارة الاحتياطيات الدولية وإدارة نظام "سويفت" للتحويلات المالية الدولية، وحينها جرى الترويج لنقل البنك المركزي إلى عدن شماعة لتبرير عدم قدرة سلطة صنعاء على دفع رواتب موظفي الدولة، بينما في الواقع ظل البنك المركزي في صنعاء يمارس نشاطه في الرقابة المصرفية وإدارة حسابات الحكومة وسوق الصرافة وسعر الصرف، مدعوماً بكوادره المدربة والمؤهلة، وبذلك تم التأسيس للانقسام النقدي والمصرفي بين مناطق صنعاء ومناطق عدن.
مرحلة السياسات المتهورة
خلال الفترة من 2017-2019، اتبعت كل من سلطتي عدن وصنعاء سياسات اقتصادية متهورة وغير رشيدة، ففي عدن اتجهت الحكومة نحو سياسة مالية متهورة لتمويل نفقاتها من مصادر تضخمية عن طريق طباعة نقود جديدة دون توفر احتياطيات كافية من النقد الأجنبي لإدارة سعر الصرف، ما دفع بالقوة الشرائية للريال إلى تدهور كبير، حيث ارتفع سعر الصرف بمعدل ثلاثة أضعاف ما كان عليه قبل الحرب، مسبباً زيادة في معدل التضخم على السلع والخدمات بالنسبة نفسها، وهو ما أثقل كاهل المواطنين محدودي الدخل والشرائح الفقيرة في المجتمع.
وخلال تلك الفترة، حصلت سلطة عدن على ودائع ومنح من الحكومة السعودية بلغت 2.4 مليار دولار، وللأسف لم تستخدم بشكل سليم لإدارة سعر الصرف، بل شابها الكثير من الفساد والعبث، حسب ما ورد في تقارير خبراء الأمم المتحدة، ويعد ذلك إخفاقاً جسيماً في إدارة الشأن الاقتصادي وفي الحفاظ على المال العام.
وبالمقابل، اتبعت سلطة صنعاء سياسات مالية مجحفة قائمة على فرض جبايات ضريبية وجمركية وزكوية وغيرها بلغت عشرات أضعاف ما كانت عليه في عام 2014، دون الالتزام بالصرف على بنود النفقات العامة من الرواتب أو الإعانات أو النفقات الاستثمارية، وفي الجانب النقدي، اتخذت سلطة صنعاء إجراءات صارمة خلال عام 2019 لمنع تداول الطبعات الجديدة من العملة الصادرة عن بنك عدن المركزي، وهذا أدى إلى التباين في سعر الصرف بين مناطق صنعاء ومناطق عدن.
مرحلة تعميق الانقسام
مع إعلان سلطة صنعاء منع التداول بالعملة الجديدة، منذ مطلع عام 2020، بدأت مرحلة جديدة لتوسيع دائرة الانقسام النقدي والمصرفي، وظهور نظامين لسعر صرف الريال، نظام شبه مستقر في مناطق صنعاء، ونظام متقلب ومتدهور في مناطق عدن، وصل الفرق بينهما، في الأيام الماضية، إلى أكثر من ثلاثة أضعاف، وكان لهذا التباين الشديد بين السعرين انقسام في النظام المصرفي بين المنطقتين، تجسد في فك الارتباط بين الحسابات البنكية للشركات والتجار والمواطنين، في إطار البنك الواحد في مناطق صنعاء وفروعه في مناطق عدن، ما أدى إلى تصاعد رسوم التحويلات المالية بالريال عبر البنوك أو شركات الصرافة بين مناطق صنعاء وعدن، وبرزت ظاهرة الدولارية أساساً لتقييم الريال المنهار في عدن، مقابل الريال شبه الثابت في صنعاء. ومما زاد من تدهور قيمة الريال في مناطق عدن استمرار سلطتها في تمويل نفقاتها من مصادر تضخمية عن طريق الإصدار النقدي الجديد، وهذا ساهم بقوة في تصاعد أسعار السلع والخدمات وارتفاع معدلات التضخم.
وخلال تلك الفترة اتخذ البنك المركزي في صنعاء إجراءات صارمة في الرقابة على سوق الصرف، ومنع شركات الصرافة من السحب على المكشوف في ما بينها، وهو ما حد من ظاهرة المضاربة بالعملة وساعد في استقرار سعر الصرف بمناطق صنعاء، وفي الوقت نفسه ظل بنك صنعاء المركزي يعاني من أزمة السيولة النقدية الحادة لعجزه عن طباعة النقود، ولو تيسر له ذلك لأصبح سعر الصرف في تصاعد مستمر، كما هو الحال في مناطق عدن.
ومع بداية عام 2022، جرى تعيين محافظ جديد للبنك المركزي في عدن، تبنى برنامجاً للإصلاحات الاقتصادية، بالتعاون مع صندوق النقد العربي وبدعم من صندوق النقد الدولي، قائماً على عدم تمويل النفقات الحكومية من مصادر تضخمية، ووقف الإصدار النقدي الجديد، إضافة إلى أهمية تحصيل عوائد الصادرات النفطية وإيرادات الضرائب والجمارك إلى الحسابات الحكومية في البنك، كما حصل البنك على وديعة جديدة من الحكومة السعودية بمليار دولار، ورغم ذلك لم يتمكن من السيطرة على تدهور سعر الصرف الذي تزايد بشكل مقلق في الأشهر الماضية.
وبالمقابل، ساهمت سلطة صنعاء في تعميق الانقسام المصرفي بصورة مخيفة إثر إصدارها قانون "منع التعاملات الربوية" في بداية عام 2023، والذي أدى إلى شلل البنوك التجارية والإسلامية وبنوك التمويل الأصغر وحتى صناديق التوفير، وضرب الثقة والمصداقية بين البنوك والمودعين من جانب، والمقترضين والمستثمرين من جانب آخر، وجعل البنوك تقع على حافة الإفلاس، إن لم تكن قد أفلست فعلاً.
كما قام البنك المركزي بصنعاء بصك عملة معدنية من فئة 100 ريال، دون التشاور والتنسيق مع البنك المركزي في عدن، المعني قانونياً بذلك. وفي ردة فعل على ذلك، أصدر البنك المركزي في عدن قراراً بنقل المراكز الرئيسية للبنوك إلى مدينة عدن، دون الاستماع إلى تحفظات إدارة البنوك حول المخاطر المالية والقانونية والتشغيلية والفنية المصاحبة لتنفيذ القرار، وهو ما ينذر بصراع مصرفي، وقد يزداد الأمر سوءاً إذا لم تستجب البنوك للتنفيذ.
وعموماً، فإن هذه المرحلة تتسم بالتدهور المستمر لسعر الصرف في مناطق عدن، قد يصل إلى أربعة أضعاف السعر في صنعاء، إضافة إلى بروز أزمة سيولة نقدية حادة في النظام المصرفي بصنعاء، ما ينذر بضياع الودائع لمئات الآلاف من المودعين وفقدان أرصدة البنوك لدى البنك، وبالتالي إفلاس البنوك، وانهيار الجدارة الائتمانية لها.
ما العمل؟
في ظل الهدنة، يُعوّل على مؤسسة البنك المركزي في كل من عدن وصنعاء للعمل على إنجاز الهدف الرئيسي للبنك والمتمثل في تحقيق استقرار الأسعار، والمحافظة على ذلك الاستقرار، وتوفير السيولة المناسبة والملائمة على نحو سليم لإيجاد نظام مالي مستقر يقوم على آلية السوق، ولا يتأتى تحقيق هذا الهدف إلا في ظل مؤسسة سيادية موحدة ذات علاقة بإدارة السياسات المالية والنقدية، وتحديداً البنك المركزي.
وهذا يعتمد على درجة بناء الثقة بين أطراف الصراع، وعلى الرغبة في اعتبار الهدنة "مرحلة انتقالية"، تجري فيها إعادة بناء بعض المؤسسات السيادية وتوحيدها وضمان حياديتها في الصراع، على أن يجري بعدها الدخول في حوار جاد للانتقال إلى توحيد البلاد، والدخول في مرحلة السلام والاستقرار.
وأولى هذه الخطوات التوافق على توحيد البنك المركزي، للقيام بمهام الخزينة العامة للدولة، وهذا الأمر يتطلب مفاوضات وحوارات مباشرة بين حكومتي صنعاء وعدن لتوحيد البنك وضمان حياديته بالصراع، ولذلك يتطلب الأمر التوافق على الترتيبات المؤسسية والإدارية والتنظيمية للبنك، وهي تشمل تشكيل مجلس إدارة مشترك للبنك المركزي وتوسيعه بحيث يكون بنك صنعاء ممثلاً فيه، إضافة إلى تقاسم منصبي المحافظ والنائب بين البنكين، بهدف إدارة البنك بصورة مشتركة، ويمكن أن يتحدد مكان الاجتماعات الدورية لمجلس الإدارة في صنعاء أو في عدن أو في إحدى العواصم العربية خارج اليمن، على أن تكون عدن المقر الرئيسي للبنك المركزي، باعتباره المؤسسة المعترف بها دولياً، والمرتبط بنظام "سويفت" للتحويلات المالية الدولية، وفي مرحلة السلام سينتقل المقر إلى صنعاء، عاصمة اليمن الموحد، إضافة إلى تفعيل الربط الشبكي الإلكتروني بين البنكين وجميع الفروع في كل المحافظات، لضمان تدفق البيانات والمعلومات عن تحصيل الموارد السيادية من جميع المحافظات.
وبالتأكيد فإن هذه الترتيبات تتطلب الدعم الفني والمؤسسي، وهذا يحتاج إلى التنسيق والتعاون مع كل من صندوق النقد والبنك الدوليين، واللذين يمتلكان الخبرات الفنية والاستشارية، إضافة إلى مصادر التمويل، لدعم جهود البنكين في توحيد السياسة النقدية، وتحقيق الاستقرار المالي والنقدي، وخلال سنوات الحرب، ساهمت هذه المؤسسات في رعاية الحوار بين قيادات البنكين، ولا تزال الجهود مستمرة حتى الوقت الراهن.