المنافقون والأفاكون موجودون في كل زمن وعصر، ينبتون حول السلطات والأنظمة كطحالب السبخات وكالأعشاب الضارة، ويتطاولون كالأشجار المتسلقة، نعم تلك النباتات التي سريعاً ما تتحول إلى أحراش تسكنها وتختبئ في ظلماتها وفوضاها الأفاعي والعقارب وغير ذلك من الآفات والحشرات السامة والقاتلة.
هذه الفئة من المتظاهرين بالبشرية، لا يخلو منهم زمن ولا تفوتهم سلطة أياً كانت تلك السلطة دون أن ينخروا عظامها كالسوس ويتسللوا إلى أوردتها أسرع مما يتسلل السم الزعاف.. كائنات حرباوية تغير جلودها وألوانها بما يتوافق مع كل بيئة تتواجد فيها، وتتكيف مع كل مجتمع تقصده، مهما كان حرصه وانقفاله على نفسه.
ومن أبرز هذه الكائنات الدبقة والزلقة أولئك الذين يجيدون بحرفنة عالية توجيه المدح والهجاء صوب جهة واحدة بذات المستوى وحسب الطلب والحاجة، كما يتفنون ببراعة في العويل والصراخ والتهذب والسخرية وكل بمقتضى حاجته، أو حاجة من منه الحاجة.. أهم وأبرز مبادئهم أن لا مبادئ لهم، وأكثر ما يجيدون القدرة على التقلب وموائمة مختلف الطقوس.
من هؤلاء قابلت منذ البوادر الأولى لاندلاع الأزمة السياسية في اليمن أشكالاً وأنواعاً وفئاتٍ، لكل منها ما يميزه عن الآخر.. يتفاوتون في القدرات والإمكانيات، ويبرعون في الاختلاق والابتكار والإجادة كل بطريقته وكل بإمكاناته، إلا أنهم في الأخير يجتمعون في صفة مشتركة، تشكل سقفاً واحداً لهم جميعاً.. ينضوون تحته بمختلف الصفات والأسماء الدالة على النفاق.
غير أن فئة من هؤلاء وأولئك يصل بهم الأمر إلى حدود النفاق المهين الذي لا يرتضيه لنفسه كائن بشري ينطق ويعقل. هؤلاء وصل ويصل بمثلهم الأمر إلى استعدادهم للتناقض حتى مع السائد والحتمي والمقدس، بل ومع أنفسهم إن لزم الأمر، مستعدون حتى للكفر بأنفسهم في سبيل إرضاء وجهات حاجاتهم التي لا تنتهي، وحتى الدنيئ والرخيص من تلك الحاجات.
أخيراً يصيبك بالأذى حد القهر والغضب وأحياناً الرثاء موقف تتمنى أنك لم تولد أو توجد لتعيشه على حقيقته المؤلمة.. موقف تجد حواسك فجأة دون تخطيط أو ترتيب تدونه عن قرب في سجلات الأذى التي بات حملها ضرباً من الوجع المستحيل، والسكوت إزاءها شكلاً من أشكال الانتحار المحرم، والتعايش معها نوعاً من أنواع الهمجية المطلقة.
جعلني أقول وأكتب هذا بعض من مواقف أشباه البشر الذين كانوا في الأمس يعدون أنفسهم نماذج تحتذى ويعدهم الآخرون أمثلة تقتدى.. نعم لقد راقبتهم، من أقرب نقطة من حقيقتهم، يسقطون من الأعالي التي سطوا عليها طوال عقود مضت، تسبق أجسادهم رؤوس كان ينظر إليها على أنها مخازن علم وفكر ووفاء وإيفاء.. ولكن سرعان ما تفجرت تلك الرؤوس كبطيخ متعفن بمجرد ملامستها الأرض.
كان بإمكان تلك الرؤوس ألا تلامس الأرض، ولكن حامليها لم يشاءوا لها إلا أن تفعل، وأن يتعرى البطيخ المتعفن.. وكما سيظل الزمن ولاداً للأحرار والنماذج التي ينتاب محيطها تمني الاقتداء بها.. سيظل أيضاً منتجاً لمختلف أنواع الكائنات المتأنسنة التي لا قدرة لها على شيء غير المتاجرة بنفسها ومبادئها ومبادئ الطبيعة التي وجدوا عليها.
لا يستطيعون التظاهر والتلبس والتزيئ دائماً وأبداً، لا بد لهم من لحظة فارقة تتفصل فيها أجزاؤهم وتتناثر أسماؤهم وصفاتهم، ثم تنكشف حقيقة أنهم كائنات برمائية لدنة، لا يمكنها أبداً التحليق في السماء طويلاً مثلما لا تستطيع أن تعيش بعيداً عن المستنقعات.. وبما يجيز تسميتها أو وصفها بالكائنات البرمستنقعية.
رحم الله الزعيم الحميري الفطن الشهيد علي عبدالله صالح، كان بحكم خبرته الطويلة في السلطة والحكم، أكثر الناس دراية وعلماً بهؤلاء، وكان كثيراً ما يعرِّض عليهم إشارة وتلميحاً وأحياناً تصريحاً في خطاباته ولقاءاته واجتماعاته في كل مناسبة وحدث، وكان غالباً ما يضع سبابته في عيونهم فقط ليقول لهم أنه يحصيهم عدداً ويخبر تفاصيلهم بدقة، مهما تلونوا وتنكروا وأوغلوا في الملق والنفاق.