* بداية وربما قبل البداية:
أود أن أوضح أن لدي إيمان شبه مطلق بأبوية الفن، وبكون كل ابتكار أو منتج إنساني هو في الأساس فن أو ينضوي تحت تلك الأبوية الأزلية للفن.. ومن هذا المنطلق تكونت لدي بشكل شخصي ومنذ زمن غير قصير فكرة تلامس وتقارب النتاجات الإبداعية التي تنتجها نخب المبدعين والمبتكرين والفنانين من الناس ذوي المواهب والمعارف، لا أقول الخارقة وإنما الاستثنائية.. وتحت هذه اللافتة كثيرا ما قاربت بين إنتاج وتلقي بعض النتاجات الإبداعية والإنسانية من فنون يرى البعض بينها اختلافات كثيرة فيما أنظر إليها من جهتي من طرف آخر هو المقاربة وليس المقارنة..
ومن مثل ذلك الرؤية تجاه الفن التشكيلي كفن بصري من جهة و فن الكتابة الإبداعية وبالذات الشعرية من جهة أخرى.. وكثيرا ما أستدل على ذلك حتى أمام نفسي بزمن تطور هذين الفنين وتطور تقنياتهما وأدوات وطرق التعامل معهما ومع نقدهما، ووصولا إلى تشابه مدارسهما ومصطلحاتهما من كلاسكية وحداثة وواقعية وتجريدية ومباشرة ورمزية وغير ذلك.. وعليه فإن ما أردت التمهيد لقوله صراحة هو أنني، كمنتج نص من جهة وكقارئ من جهة أخرى، أتعامل مع العمل الفني كما أتعامل بالضبط مع النص الأدبي وبالذات الشعري، وأرى أن آفاقهما وطرق التعامل مع إنتاجهما وتلقيهما لا تكاد تختلف في شيء إطلاقا..
ومؤخرا حانت لي فرصة لتجديد إيماني بالفكرة والاستمتاع بوعي تام بتطبيقها والتعامل بها مع أعمال الفنانة التشكيلية هالة الزريقي في المعرض الخاص بها والذي نظم في صنعاء خلال الفترة (بين 30 نوفمبر و6 ديسمبر 2021م)..
* ثم بداية..
على الرغم من أن جميع أعمال هذا المعرض تقريبا تنتمي إلى المدرسة الواقعية، سواء عبر البورتريهات أو المناظر الطبيعية، إلا أن القارئ أو المتلقي المتمعن لا تخطئه أو تفوته التقنيات الدلالية شبه الخفية، التي تعتمدها الفنانة وتركز عليها، لتشي بمكنونات قولية/بصرية غاية في الدقة والوضوح، ومن ذلك ما تضخه بسخاء من تعبيرات متضادة وربما متنافرة في الوجوه الحاضرة في لوحاتها، كما هو الأمر في اللوحة العالمية الشهيرة الجوكندا أو الموناليزا وغيرها من الأعمال الفنية العالمية، التي دأبت في عصور مختلفة ذلك الدأب.. ويتجلى ذلك بوضوح في عدد من لوحات هذا المعرض؛ في مقدمتها اللوحة الخاصة بملكة سبأ بلقيس، وكذلك في لوحتي الرجل والمرأة العجوزين، اللذين حشدت الفنانة تلك المعاني المتقابلة، ليس في مظهريهما ودلالات زيهما وسنهما وتجاعيدهما الظاهرة وحسب، وإنما أبلغ وأبعد من ذلك في الآفاق المتسعة التي في عيونهما، تلك الآفاق التي تجاوزت الحدقات بكثير جدا، لتبوح بالكثير والكثير من الدلالات، دلالات شتى تتأرجح بين مداها معان ومشاعر متضاربة، بحيث بإمكان المتلقي أن يعمد إلى التفاؤل والسعادة، فيجدهما متأججين كما لو أن الفنانة لم تقصد شيئا سواهما.. كما يستطيع القارئ المتأمل، من جهة أخرى، أن يستحضر في أمدية تلك العيون مجاهل أبعد مما يتخيل من الحزن والأسى، وباستعطاف موجع يكاد يستجدي من المتلقي البكاء..!!
*كسر للأسيجة والحدود:
وهنا نستطيع أن نقول أن الفنانة قد تعمدت بوضوح أن تكسر الأسيجة وتطمر علامات الحدود، وأن تتخلص من ضيق المساحات في التفكير والتقييم، لتعطي المتلقي فضاء واسعا بل ويكاد يكون مفتوحا للقراءة والتأمل، ولتترك له الخيارات مطلقة في التعبير والتخيل، وبما يتواءم مع توجهه وحالته الشعورية الخاصة، إذ بإمكانه بسهولة إسقاط حالته النفسية والشعورية الخاصة على هذه الأعمال، وفتح كوات فيما بينها، تمكن من الامتزاج وإحداث تداخل تعبيري وشعوري بين عالمين متجاورين؛ يتمثلان في حالته الشعورية من جهة وأجواء المعرض، الذي تبرع لوحاته في اجتذاب المتلقي من الوهلة الأولى للالتقاء، من جانب آخر.. وذلك ما لاحظته واقتنصته عنوة، خلال زياراتي اليومية، على معظم انفعالات وتفاعلات زوار المعرض..
وهذا بطبيعة الحال ما يرجع ولو بشكل جزئي لانتماء أعمال المعرض للمدرسة الواقعية، ولكن للحقيقة ليس كل ما ينتمي لهذه المدرسة قادرا على تحقيق هذا التواصل اللاشعوري أو التلقائي بين المتلقي والأعمال الفنية.. فهناك من الفنانين المنتمين للواقعية يمتلكون موهبة وربما براعة كبيرة في التصوير والتجسيد التطابقي حتى في أدق التفاصيل، التي لا تكاد تدرك.. ولكن لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ذلك غرضا مهما من أغراض الفن، فانعدام الخلق والابتكار في الأعمال الفنية يسقط فنيتها، والإبداع والابتكار قد لا يكونان في علامة ظاهرة أو تفصيل ظاهر أو مباشر في النص البصري، وإنما قد يكون في أخفى خفايا هذا النص أو ذاك، وهو ما برعت الفنانة هالة الزريقي في بثه كروح مشتركة وخفية في أعمال هذا المعرض، وبطريقة سحرية، تستجذب المتلقي بمجرد عبور اللوحات مجال رؤيته، بطريقة يمكن أن نسميها قسرية أو عشقية، تستطيع أن تجعله يتوقف أمامها متأملا وكأنما يسترجع ذكريات ما من ملفات حياته المطوية في مجال الذاكرة، بينما هو في الحقيقة يتوقف بتلقائية لا إرادية، بسبب أن الومضة البصرية التي تأتي عبر أداة واحدة من أدوات الحواس، قد استطاعت وتستطيع عادة، أن تشعل حواسا خفية أخرى ترتبط في الأساس بمشاعره، وتخلق بذلك ارتباطا أو علاقة شبه خفية بين المتلقي والنص البصري..
وهذا بالطبع هو ما تعتمد عليه الموهبة، موهبة الفنان والكاتب والشاعر والمبدع عموما، ومدى قدراته على النفاذ إلى أبعد نقطة من مراكز الشعور لدى المتلقي، وإن كان ذلك عبر نص قد يراه البعض عاديا أو قد يستطيع آخرون تقليده ومشابهته ببراعة، إلا أن المتلقي الحصيف والقارئ نفسه يجب أن يكون لديه ذات البراعة التي يتميز بها المبدع، ليتحقق لهما الالتقاء في نقطة ما في منتصف المسافة بينهما.. ومن الطبيعي أن يبذل المتلقي جهدا لا بأس به ليتوازى مع المبدع منتج النص ليكونا على مقربة من بعضهما.. والفنان المبدع والعارف هو من يقرب تلك المسافة بينه وبين المتلقي بعيدا عن التقريرية الفجة والصراخ المزعج..
وهذا ما أستطيع أن أجزم بأن الفنانة هالة قد استطاعت بقدر كبير أن تحققه في إنتاج نصوصها البصرية في هذا المعرض..
* ثم ما بعد البداية:
بطبيعة الحال لست متخصصا ولا معنيا بالحديث عن التقنيات التي استخدمتها أو تستخدمها الفنانة في إنجاز لوحاتها، لأن ذلك بالنسبة لي كمتلق ليس مهما بقدر ما يهمني ما تبعثه وتوصله هذه الأعمال/النصوص من تعبيرات ودلالات إيحائية، فهي في الأساس ما يؤثر في مشاعر المتلقي، لينتج بالتالي نصا تفاعليا كهذا النص الذي أكتبه عن تجربة الفنانة في هذا المعرض.. تلك التجربة التي أعنيها استطاعت أن تستوقفني لأتحول إلى ما يشبه المرآة فأقول شيئا وجدت نفسي كمتلق مستعدا بل راغبا لأقوله عن أعمال فنية أستطيع وصفها بالنصوص البصرية، كان لديها من القدرة على الاجتذاب والاستيقاف، ما جعلني أكتب عنها ما أكتبه في هذه الوقفة التفاعلية، التي أتمنى أن تكون لدي أنا أيضا ذات القدرة في تقديم الفنانة ومعرضها إلى متلق آخر أو أكثر ممن سيقرأون هذه المحاولة، لاستشراف ما يمكن من أبعاد ودلالات ذهبت إليها الفنانة، ربما عن قصد وربما أحيانا بدون قصدية مباشرة، كما هو الحالة لدى معظم إن لم يكن كل الفنانين والكتاب الموهوبين وذوي الأحاسيس والمشاعر المتقدة والعالية المستوى.. فكثيرا وكثيرا جدا ما يكون المتحكم في إنتاج النصوص البصرية، كما هي النصوص الإبداعية من شعر وقصة وخاطرة وغير ذلك، كثيرا ما يكون المتحكم هو الذاكرة التراكمية والاعتيادية للتجارب الإبداعية وأيضا الحياتية السالفة..
وفي لوحات/نصوص هذا المعرض البصري، أمد أبعد من التقنية البصرية، ألا وهو النسق الشعوري والقدرة على توصيل ذلك النسق وكشفه للمتلقي من قبل الفنانة عبر تفاصيل نصها البصري، وبالتالي إيجاد وتعبيد تلك القناة التواصلية المشتركة وتحديد نقطة الالتقاء بين المنتج المبدع والمتلقي الذي بطبيعة الحال يعيد إنتاج تلك النصوص بقراءتها وتلقيها..
وكما أسلفت لا أعني أي متلق عابر، وإنما المتلقي الذي لديه قدرة على استبطان النص، سواء أكان نصا بصريا أو كتابيا أو مسموعا، ولديه رغبة جامحة في القراءة ومعرفة كوامن النص الذي بين يديه واستكشاف أسراره.. وفي مقدمة مل ذلك سر الاجتذاب والاستيقاف الذي تتميز به أعمال كأعمال الفنانة الزريقي في هذا المعرض..
قد يقول أحدهم لماذا تذهب بعيدا..؟! فاللوحات تجذب المتلقي منذ الوهلة الأولى ولست مضطرا لتقصي ما في بواطنها من أسرار، قد تجعل عملية التواصل أصعب ما يكون بين العمل الفني والمتلقي، فأقول لهذا ولذاك، إن قراءة النصوص سواء أكانت بصرية أو دون ذلك، يجب أن تكون بمستويات ورؤى ومذاهب مختلفة، وإلا فإنها في حكم الميتة حين يقتصر مفهومها على قراءة واحدة..
وحين يكون منتج هذه النصوص على قدر كبير من الذكاء والبراعة، فإنه يدرك بتلقائية الموهوب؛ أن المتلقين أنواع ومستويات، وفي هذه الحالة يستطيع الفنان المبدع بقدراته غير المحدودة أن يجتذب ويأسر المتلقي في مختلف مستوياته من عمل لآخر.. والفنان الأكثر براعة وإبداعا من هذا وذلك هو الذي يستطيع أن يجذب ذائقات واهتمامات أصناف ومستويات المتلقين في عمل واحد.. بحيث ينتج نصا ذا قراءات مختلفة في المستوى والوجهة.. وبذلك ينوع دلالات التلقي ومستوياته في ذات النص الواحد..
وهذا ما استطعت من جهتي أن ألمحه وألاحظه في أعمال الفنانة الزريقي.. ولعل هناك ربما سببا آخر في تنوع الدلالة ومستوى القراءة والتلقي، ألا وهو انتماء هذه الأعمال، كما أسلفت، للواقعية التي تعمد إلى النقلية والتجسيد، وهذا طبعا ما يترك مساحة محدودة وصغيرة جدا للفنان ليعبر خلالها عن خصوصيته وتميز تجربته.. ولكن ذلك رغم صعوبته إلا أنه يخرج من إطار المستحيل حين يكون الأمر متعلقا بمبدع ذي أفق واسع وقدرات بعيدة المدى على تشكيل ملامح تجربته، ونسج خصوصيته بذات الألوان والخامات، التي يستخدمها الآخرون.. وذلك ما أزعم أن الفنانة هالة الزريقي قد استطاعت أن تعبر عنه في لوحاتها، إن لم يكن من التفاصيل المباشرة كالمنازل المهدمة التي شكلت خلفية لطفلة تنام في العراء على حجر وفي يدها أزهار ذابلة، أو لطفلة أخرى على ظهرها مستوعبا لجلب الماء، وفي عينيها تحمل عالما ثقيلا ومجحفا من الأسى والحزن، فمن خلال الكتل البصرية العامة التي تشعر أمامها وكأنها لولا أسر إطارات اللوحات لها، لتفجرت صراخا وفوضى في تعبيريتها الضاجة.. أو من تلك الهالة الضوئية واللونية ذات الدلالات الأبعد من إدراك المتلقي العابر في بعض لوحات أو نصوص هذا المعرض.. مثل تفاصيل وملامح الشابة الجميلة التي تلتحف الستارة الصنعانية، أو الرجل العجوز الذي يرتدي الزي التعزي على خلفية ريفية.. ففي هاتين اللوحتين ما يكفي لتتوقف عندهما وتكتشف وتكشف لسواك الكثير من الدلالات التي تشع بها تفاصيلهما وفي مقدمة كل ذلك، ما يومض من عيني كل منهما، كبؤرتين مركزيتين لكل من اللوحتين، من رؤى وأفكار تنبعث في كل اتجاهات الإطارين فتنعكس على كل أطراف وتفاصيل اللوحتين وفي كل اتجاه من محيطي دائرتيهما، وبالتالي بعيدا عن حدود الإدراك القسري الواحد والمستحوذ.
* وليس أخيرا وإن كان في الختام:
فإن قراءات ودلالات كثيرة ومثيرة تنضح بها أعمال هذا المعرض، رغم انتمائها كما أشرت سابقا، للواقعية التي يعتقد الكثيرون أنها تذهب للتجسيدية والتقريرية.. فما يحسب لها كثيرا أنها تكسر تلك الرؤية، وتشخص بالرفض في مواجهة ذلك الاعتقاد المجحف، بكونها تخلق وتوجد آفاقا أبعد مما يمكن أن تصل إليه القراءة أو الرؤية السطحية المباشرة.. وعليه فإن هذه الأعمال/النصوص تعد من الأكثر قدرة على استمالة فضول القراءة والتامل وإنتاج النصوص التفاعلية الموازية كهذه القراءة العابرة التي أتمنى أن أكون قد وفقت في اقتناص وتجميع وتوصيل أفكارها كما يجب علي.