بعد بدء تنفيذ الانسحاب العسكري الأميركي من أفغانستان، أسفرت زيارة رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي للبيت الأبيض عن قرار البنتاغون إنهاء المهمات القتالية للقوات الأميركية في العراق قبل نهاية السنة الحالية. القرار ليس وليد لحظته ولا مفاجئاً، بل اللافت فيه هو تسارع إعلان الانسحابات الأميركية رغم كل التوريات والتخريجات اللغوية، مثل استمرار قصف «طالبان» طالما هي تعتدي على القوات الحكومية وبقاء فرق الاستشارة والتدريب وحماية المنشآت والمصالح الأميركية في العراق.
والانسحاب المضمر الثالث والمتزامن مع أفغانستان والعراق هو ما كتب عن تفاهمات روسية أميركية حول النفط في شرق سوريا. فوفق ما كتب أندرو تابلر في مجلة «فورين أفيرز»، أنهت واشنطن رخصة «دلتا كريسنت» للتنقيب عن النفط مقابل دعم موسكو لمواصلة السماح للمساعدات الإنسانية بعبور الحدود إلى مناطق سورية لا يسيطر عليها نظام الأسد. إنهاء هذا الترخيص مطلب روسي رئيسي لسياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا.
ويمكن أيضاً إضافة لبنان إلى اللائحة جراء ما يتردد عن تفويض قضيته إلى الفرنسيين، باستثناء المساعدات المحدودة التي تقدمها واشنطن إلى الجيش اللبناني.
والانسحاب الأميركي كان منذ عقود ولا يزال المطلب الدائم لمعظم القوى القومية والوطنية واليسارية والثورات الانقلابية التي انتشرت كالفطر في منطقتنا. ولا يجوز أن نغفل الحصاد المر لهذه الثورات الانقلابية وآثارها السلبية في أكثر من دولة عربية.
المحصلة أن أميركا منسحبة من المنطقة حكماً لا مناورة، ويبدو أنها خطوة استراتيجية وليست تكتيكاً وأن دعوات المطالبين بخروج القوات الأجنبية قد تحققت.
الغاية من استعراض شريط الأزمات هذه هو لمقاربة قدرة الدول المحلية منفردة أو مجتمعة على مواجهة هذه النزاعات بعد الغياب الأميركي. صحيح أن الوجود الأميركي لم يقدم حلولاً ناجعة ومستدامة، إنما ماذا في اليوم التالي للانسحاب؟ هذا السؤال يحتم على القوى المحلية أن تكون جاهزة لمواجهة هذه الأزمات بقدراتها الذاتية من دون الاختباء وراء فزاعة التدخل الأجنبي.
إن الحديث عن حلول داخلية يطرح مشكلة إضافية مزدوجة تفرضها الأوضاع الداخلية للعديد من دول المنطقة التي تعاني من مشاكل سياسية واقتصادية واجتماعية في الداخل وعلى رأسها إيران، الدولة الأكثر تدخلاً وحراكاً في الإقليم، بحيث إنها منخرطة في أربعة نزاعات على الأقل، عدا عن مشاكلها مع واشنطن. وبعض دول المنطقة ليست أفضل حالاً منها.
المشكلة الثانية هي ضعف الحوكمة في معظم هذه الدول التي تقوم على آيديولوجيات متشددة مترسخة وتعاني غالباً من انقسام اجتماعي حاد، إضافة إلى شبه انعدام الثقافة السياسية عند المواطن والمسؤول على حد سواء.
إن انكفاء دولة عظمى مثل أميركا عن المنطقة ليس بالأمر الإيجابي، وذلك رغم أن تجارب المنطقة مع تدخلها في أغلبها مخيبة، وكان انخراطها دوماً متردداً عينه على باب يريد الخروج منه حتى قبل أن يهم بالدخول. إلى كل ذلك يبقى أن نعرف ماذا تريد أميركا اليوم من الإقليم أكثر من منع إيران أن تصبح دولة نووية.