محمد العولقي
أجمل ما يمكن أن يقال عن الفتى الذهبي ليونيل ميسي أنه لم يعد ثلث أو نصف قوة برشلونة ، فمنذ رحيل عسس التيكي تاكا و العبقري ميسي يبرهن أنه يساوي فريقا كاملا مع احتياطييه وجهازه الفني ، وهذه حقيقة يؤكدها الليل قبل النهار دون أن يكون فيها إساءة لأي فريق ، حتى لو كان هذا الفريق هو إف . سي . برشلونة بشحمه ولحمه و عظمه ..
وإذا نجحت في إيقاف ليونيل ميسي و كبح جماح خطورته المتنوعة، تكون قد قضيت تماما على برشلونة بالكامل ..
كافو الظهير البرازيلي للروسنيري في عصره الذهبي ، أرسل النصيحة التالية لمدرب نابولي الإيطالي جينارو جاتوزو، قبل أيام على مواجهة برشلونة في سان باولو لحساب ثمن نهائي دوري أبطال أوروبا :
" إذا أوقفت ليونيل ميسي، تكون قد منعت 50 في المائة من قوة برشلونة .."
يبدو أن كافو في شهادته عمل حسابا لتاريخ النادي الكاتالوني الذي لم يرتبط يوما بزواج كاثالوكي مع أي لاعب مهما كان حجم تأثيره على رقصة التيكي تاكا..
لكن هذه القاعدة البرشلونية لم تعد تنطبق على برشلونة الحالي ، ليس لأن ميسي يظهر الاستثناء كله فقط ، ولكن لأن هذا العبقري الذي يستحق أن يكون الثالث في عجائب الجلد المنفوخ، احتكر كل الأرقام ولم يترك للآخرين إلا قليلا من فتات لا يغني و لا يسمن من جوع ..
بعيدا عن دمغة الأنا ، أرى أن برشلونة حاليا هو فريق إف . سي . ميسيلونة ، فهذا اللاعب المدهش الذي لم ير العالم مثيلا له في العقد الأخير، يصنع العجب العجاب، مع العلم أنه محاط حاليا بعسس مليء بكل العاهات الكروية ، فهو الحمض النووي الذي يفرز هرمونات الدهشة ، وهو الحاوي البارع الذي يغطي على عاهات فريقه و يحسم المباريات في تنهيدة، مهما بدت أمامنا منيعة وصعبة ..
عندما دخل ميسي مرحلة النضج الكروي في سن مبكرة للغاية، كانت خطورته تقتصر على الرواق الأيمن ، كانت استراتيجية لعبه واضحة : يستلم الكرة في اليمين، ثم يتلوى كالثعبان متعرجا إلى العمق، وبيسراه المميتة يرسل تسديدة دقيقة يقيسها بأوقيات الزئبق ..
قبل خمس سنوات كان ميسي يراهن على طاقته البدنية في سرعة الإقلاع، وفي ذكاء التوغل بدون كرة إلى منطقة حساسة في مساحة علبة كبريت ، حيث يتفوق في ردة فعله مهاريا وذهنيا في جزء من الثانية ..
كل جلادي ليونيل ميسي يعلمون أنه مراوغ فلوكلوري ، فظيع في التحرك القطري بدون كرة ، ينسل دائما من مساحة قبر ، وفي تنهيدة واحدة يجتاز كل الحواجز الدفاعية ..
ظل مراقبوه ينصبون له الكمائن تحديدا من العشرين مترا الأخيرة، حيث يكون الضغط عليه عنيفا بكتيبة كاملة من اللاعبين ، منهم من قضى عليه ميسي بفضل براعته في المناورة ، ومنهم من ينتظر فرصة الإجهاز عليه و تحييده تماما ومنعه من دخول مملكة الجزاء التي ولد فيها هذا الإعجاز وفي فمه ملعقة من لهب وذهب ..
لا يختلف اثنان أو حتى عشرة على أن ليونيل ميسي لاعب متكامل فنيا ، وأن برشلونة ما كان له أن يتفوق رقميا على ريال مدريد في البطولات المحلية لولا هذا الطيف الشمسي الذي جمع كل ألوان قوس قزح في قدمه اليسرى الساحرة التي تقذف الكرة بدقة من يضع الكرة بيده في الشباك ..
قبل خمسة أعوام، كان ميسي ضلعا في مثلث برشلوني يوزع سحره في لفافات براقة ، كان ميسي فقط يحمل عبء تفتيت حصانة دفاعات الخصوم، كانت مهمته حسم المباريات الكبيرة والصعبة دون أن تكون إحدى مهمامه التمهيد أو صناعة اللعب أو القيام بأي واجب دفاعي ..
في وجود تشافي هيرنانديز فيلسوف الأناقة و أندرياس أنييستا أستاذ السهل الممتنع ، وبراعة سواريز، كان ميسي يحوم في العشرين مترا الأخيرة كالفراشة ويلسع كالنحلة ..
الآن تغيرت تلك المعادلة كليا ، رحل تشافي إلى قطر حيث البترودولار، و هاجر أنييستا إلى الصين حيث فيروس كورونا يفتك بذوي العيون الضيقة ، ولم يبق في سلالة البلوجرانا سوى حبة زمرد واحدة ، لكنها على أي حال ليست زمردة عادية ، بل هي زمردة بفولتات طيفية تغشي الأبصار و تسحر القلوب والأفئدة ..
وإذا كان الساحر ليو يراهن في السابق على قوته البدنية الخارقة وسرعته القصوى في الأمتار الأخيرة ، فهو اليوم وبعد أن داعب سن الثالثة والثلاثين يلعب كثيرا بعقله ، فأصبحت خطورة ميسي اليوم في قوته الذهنية ، وفي عقله الذي يحلل و يفك طلاسم المباريات في جزء من الثانية ، يبدو ميسي الحاضر كما لو أنه كمبيوتر يمشي على قدمين، برامج كاملة تضع الحل في قدمه قبل أن يرتد إليه طرفه ..
في السابق، كان يمكن لأي مدرب تجنيد لاعب أو لاعبين أو حتى ثلاثة، لمنع ميسي من التنفس في العشرين مترا الأخيرة ، أما حاليا فأنت تحتاج إلى فيروسات تبطل مفعول كمبيوتر ميسي، وتمنع عقله من إرسال الأوامر لقدميه ..
ولأن أدوار ميسي اليوم اختلفت عن السابق بحكم اختلاف تركيبة برشلونة بشريا ، ولأن برشلونة يعتمد عليه في الستين مترا من الملعب، فمن الطبيعي أن تقل نسبة أهدافه ، لكن هذا الفتور الهجومي يقابله ارتفاعا رهيبا في نسبة التمريرات الحاسمة ..
وعندما تخرج الأرقام ألسنتها لتقول إن ميسي مرر ست تمريرات حاسمة في ثلاث مباريات فقط، فهي نسبة مدهشة و مذهلة تؤكد أن ميسي دخل مرحلة العقلنة ، وهي مرحلة تقدم لنا ميسي الوقور الذي يفضل صناعة الحلوى وتقديمها في أطباق فاخرة لزملائه، على أن يتذوقها أو يلتهمها وحده ..
أصبح ميسي اليوم الكل في الكل ، يقود فريقه للانتصارات في المباريات الكبيرة بتمريرة أو لمحة ساحرة، تجعل جو برشلونة بديعا و دنياه ربيعا، رغم كل تلك العاهات التي تتمركز حوله ..
في السابق يمكن للرقيب فوق العادة أن يسهو مع ميسي قليلا طالما كان بعيدا عن منطقة الجزاء ، لكن حاليا على مراقبيه التركيز طوال تسعين دقيقة ، لأن خطورة ميسي كما قلت سابقا لم تعد تقتصر على قدميه فقط ، فقد أصبح عقله هو مصنع الخطر الحقيقي، لهذا أصبحت مراقبة ميسي كظله عملية شاقة، ربما كان الأسهل منها تسلق جبال الهملايا دون حبال أو رجال يساندون الموقف ..
برشلونة اليوم هو ليونيل ميسي والباقي مجرد كومبارس يدورون في فلك هذا اللاعب المدهش ، فإذا نجحت في الدخول إلى تلافيف مخه، ومنعته من رفع رأسه عند استلام الكرة، تكون قد أفسدت برامجه دفعة واحدة، و أبطلت مفعول برشلونة فنيا و تكتيكيا، عندها فقط عزيزي جاتوزو يمكنك تحويل برشلونة إلى وجبة كباب في مطعم سان باولو، والتهامها بإتكيت الشوكة و السكين، و صحتين وعافية ..!