في السادس من ديسمبر تحل الذكرى العاشرة لاغتيال الشهيد اللواء جعفر محمد سعد، محافظ عدن، الرجل الذي حمل على كتفيه مدينة خارجة من أتون الحرب، ووقف في أصعب لحظاتها ليعيد لها نبضها الأول، قبل أن تمتد إليه يد الغدر وتغتاله في جريمة لا تزال تفاصيلها مطموسة، كأنما أراد مرتكبوها أن يُغتال الرجل مرة أخرى بقتل الحقيقة.
عشر سنوات مرّت، وما يزال ذلك الصباح الثقيل حاضرًا بكل قسوته، كأن الزمن لم يتحرك منذ أن دوّى الانفجار الذي خطف جعفر وترك خلفه مدينة مفجوعة، تتلمس طريقها وسط ركام الأسئلة. عشر سنوات لم تهدأ فيها روحي، ولا بردت فيها جمرة الفجيعة التي حملتها منذ لحظة اغتياله. لقد بتروا بقتل جعفر جزءًا من قلبي وروحي، وتركوني أصارع وحدي جدرانًا عالية من الصمت ودهاليز مظلمة من الخداع والتضليل.
سعيت طوال هذه الأعوام إلى كشف السر الشيطاني وراء اغتياله؛ من خطط؟ من نفّذ؟ من أراد أن تنطفئ تلك الشعلة التي كانت تعيد لعدن حضورها وهيبتها؟ لكنني لم أواجه إلا أبوابًا محكمة الإغلاق، ومسالك ملغومة، ومخاطر زُرعت أمامي كي أتراجع، وكأن الحقيقة نفسها صارت جريمة لا يريدون لأحد أن يقترب منها.
كلما اقتربت خطوة، كانت الخناجر تُشهر في وجهي، مرة باسم السياسة، ومرة باسم الوطن، ومرة بنوايا يتقن أصحابها الطعن من الخلف. لم يتركوا لي فرصة للحداد، ولا للبحث، ولا حتى للسكوت. أرادوا أن تُدفن القضية كما دُفن صاحبها؛ أرادوا أن تختفي سيرة الرجل الذي وقف لله وللوطن يوم لم يكن في عدن إلا الرماد.
لكن جعفر، رغم مرور السنوات، لم يمت. لم تمت ذكراه، ولا مشروعه، ولا حضوره في وجدان الناس. لم تمت تلك الروح المقاومة التي حملها وهو يرمم مؤسسات الدولة، ويجمع شعث المدينة، ويمنح الناس أملًا في غدٍ لا يُصنع بالصدفة بل بالإرادة.
أصرّوا أن تُغلق القضية، لكن دم الشهيد لا يغلق. حاولوا دفن البطولات التي صنعها ورفاقه، لكن أثر الرجل ما زال حاضرًا في شوارع عدن ووجدان أهلها. حاولوا أن يصادروا الحقيقة، لكن الحقيقة – وإن أُخرت – لا تموت.
لقد رفعت شكواي لرب السماء، فهو وحده العدل حين يغيب عدل الأرض، وهو وحده الشاهد على كل ما فعلوه، وعلى كل يد امتدت لتغتال رجلاً لم يعرف إلا كيف يخدم مدينته.
في الذكرى العاشرة، نردد: رحم الله جعفر محمد سعد، ورحم الله كل شهداء التحرير الذين منحوا الجنوب والبلاد عمومًا فسحة حياة، بينما كان الآخرون يخططون للخراب.
ولعل هذه الذكرى تكون تذكيرًا بأن القضايا العادلة لا تُغلق، وأن الدم لا يصبح منسيًا، وأن عدن لا تنسى رجالها مهما حاولوا طمس الحقيقة ودفن الأسرار.