محلي

تحسُّن الريال اليمني بين القبضة الرقابية ونقل المنظومة المصرفية .. تحوُّل حقيقي أم انتعاش عابر؟

د. علي العسلي

|
قبل 4 ساعة و 23 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

في أواخر يوليو 2025، شهد الريال اليمني تحسنًا ملحوظًا أمام العملات الأجنبية، حيث انخفض سعر صرف الدولار من قرابة 2900 ريال إلى ما بين 2490 و2536 ريالًا. هذا التراجع السريع في سعر الصرف أثار موجة من التفاؤل المشوب بالحذر، وأعاد الجدل حول ما إذا كان هذا التحسن يعكس تعافيًا اقتصاديًا حقيقيًا أم مجرد انتعاش مؤقت ناتج عن ضغوط رقابية وإجراءات طارئة.

أولًا: القبضة الرقابية... آثار فورية ولكن مؤقتة؟

عزت الحكومة هذا التحسن إلى جملة من الإجراءات الاقتصادية والرقابية التي اتخذتها في الآونة الأخيرة، من أبرزها:
1.    نقل المنظومة المصرفية، بما فيها نظام "السويفت"، من صنعاء إلى عدن.
2.    إصدار تعليمات صارمة للبنوك بعدم التعامل مع توجيهات الحوثيين، ووقف العمل مع البنوك غير المنتقلة إلى عدن.
3.    إغلاق شركات الصرافة غير المرخصة وتشديد الرقابة على السوق المالية غير الرسمية.
4.    إلزام شركات الصرافة والبنوك بتوريد النقد الأجنبي إلى البنك المركزي في عدن.
5.    ضبط إيرادات الموانئ والجمارك وربطها إلكترونيًا بالبنك المركزي.
6.    تنسيق السياسات مع البنك الدولي والدول الداعمة.
وأكد محافظ البنك المركزي، أحمد غالب المعبقي، أن هذه الإجراءات شملت كذلك وقف طباعة العملة، وتكثيف الرقابة على سوق الصرف، ما ساهم في كبح المضاربات وتهدئة السوق السوداء.
مع ذلك، فإن هذه الإجراءات لا تعكس تحسنًا في المؤشرات الاقتصادية الكلية، مثل زيادة الإنتاج أو تحسّن ميزان المدفوعات، بل تُعد إجراءات ظرفية قد يتلاشى تأثيرها بمجرد تخفيف القبضة الرقابية.

ثانيًا: قراءة نقدية في التحسن الأخير

تشير المعطيات إلى أن التحسن الأخير لا يعود لتحسُّن فعلي في الاحتياطي النقدي أو النشاط الاقتصادي، بل إلى مجموعة من العوامل المؤقتة، منها:
1.    تشديد الإجراءات الرقابية، مما قلّص الطلب على الدولار.
2.    انتقال جزء من رؤوس الأموال من صنعاء إلى عدن بعد تعطيل قنوات التحويل غير الرسمية.
3.    تجميد السوق السوداء بفعل الضغوط الأمنية.
كل ذلك أوجد حالة من التحسن السطحي دون أن يتطرق إلى جذور الأزمة البنيوية.

ثالثًا: تحسن مؤقت أم بداية تحول اقتصادي؟

رغم ما يحمله هذا التحسن من مؤشرات إيجابية، إلا أن الاقتصاد اليمني ما يزال يواجه تحديات خطيرة، من أبرزها:

1. غياب الإنتاج المحلي الحقيقي.
2. شُحّ الموارد والمساعدات الدولية.
3. استمرار ازدواج السلطة النقدية بين صنعاء وعدن.
4. انقسام النظام المصرفي، مما يعزز السوق السوداء ويضعف ثقة المواطنين في النظام المصرفي.
وبالتالي، فإن استدامة التحسن تظل رهينة بتوحيد المنظومة المصرفية تحت مظلة البنك المركزي في عدن، واستعادة ثقة المواطنين في القطاع المصرفي الرسمي.

رابعًا: نقل المنظومة المصرفية... تحوُّل هيكلي أم شكلي؟

أعلن البنك المركزي في عدن عن اكتمال نقل المنظومة المصرفية من صنعاء، وهي خطوة جوهرية تهدف إلى استعادة السيطرة على السياسة النقدية. وتشمل المنظومة:
-    البنك المركزي كمؤسسة رقابية.
-    البنوك التجارية والإسلامية.
-    أنظمة الدفع والتسوية، ومكافحة غسل الأموال.
-    مراكز المقاصة والتدفقات النقدية.
هذا النقل يتيح للدولة فرض رقابة موحدة على السوق، ووضع سياسات نقدية أكثر فاعلية، مما يمثل تحولًا هيكليًا في بنية الاقتصاد النقدي.

خامسًا: نقل مؤسسة ضمان الودائع... نحو استقرار مالي أكبر

في خطوة داعمة، قرر البنك المركزي نقل مقر مؤسسة ضمان الودائع المصرفية إلى عدن، وهي مؤسسة أنشئت بموجب القانون رقم (40) لسنة 2008 لحماية المودعين من إفلاس البنوك. ويهدف نقلها إلى:
•    تعزيز ثقة المواطنين بالبنوك في المناطق المحررة.
•    تأمين الودائع قانونيًا.
•    فصل البنوك الخاضعة للحوثيين عن النظام المالي الوطني.
وجود هذه المؤسسة في عدن يعزز من قدرة الدولة على لعب دور الضامن الأخير للقطاع المالي.

سادسًا: تحويلات المغتربين... المحرك الخفي للاستقرار

تُعتبر تحويلات المغتربين اليمنيين، التي قُدرت من قبل البنك الدولي لعام 2024 بنحو 3.8 مليارات دولار، مصدرًا حيويًا للنقد الأجنبي. ورغم أن نسبة كبيرة من هذه التحويلات كانت تمر عبر قنوات غير رسمية، فإن تدخلات البنك المركزي في عدن ساعدت مؤخرًا على جذب جزء معتبر منها إلى القنوات الرسمية، ما أسهم في زيادة عرض الدولار وتخفيف الضغط على الريال.

إن استمرار هذه التحويلات ضمن الأطر المصرفية الرسمية يُعد عاملًا حاسمًا في دعم استقرار العملة اليمنية على المدى المتوسط والطويل.

سابعًا: القطاع الخاص... اللاعب الغائب والحاضر معًا

رغم أن التحسن الأخير نُسب في معظمه لإجراءات حكومية، فإن دور القطاع الخاص لا يمكن تجاهله. فالقطاع التجاري والمصرفي، حينما يُدار بكفاءة وفي ظل مناخ قانوني مستقر، يستطيع أن يُسهم بشكل مباشر في تعزيز الثقة بالعملة المحلية، ورفد الاقتصاد بالنشاط الإنتاجي والاستثماري.

ومع ذلك، فإن ضعف البيئة الاستثمارية، والاضطرابات الأمنية، وتعدد المرجعيات القانونية، كلها عوامل حدّت من قدرة القطاع الخاص على لعب دوره المحوري. دعم هذا القطاع من خلال إصلاحات ضريبية وشفافية تشريعية سيمكنه من الإسهام في استدامة أي تحسن اقتصادي.

رغم أن القطاع الخاص اليمني يمثل أكثر من 70% من النشاط الاقتصادي ويوفر فرص العمل لنسبة كبيرة من السكان، إلا أنه لا يزال يعاني من التهميش وغياب الشراكة الحقيقية في وضع السياسات الاقتصادية. ومع تحسن سعر الصرف، يُفترض أن يُمنح القطاع الخاص دورًا فاعلًا في قيادة مرحلة التعافي، من خلال تسهيل الاستيراد، إعادة تنشيط الصناعات المحلية، والمساهمة في استقرار السوق.
وهناك تجارب دولية مشابهة – مثل تجربة لبنان بعد عام 2008، والسودان في مرحلة ما بعد رفع العقوبات – أظهرت أن إشراك القطاع الخاص بفعالية في السياسة النقدية والاقتصادية ساعد على تخفيف الأزمات وتوفير البدائل المحلية. في المقابل، فإن تجاهله يؤدي إلى استمرار العجز في الميزان التجاري، وزيادة التبعية الخارجية، وتعطل فرص النمو الحقيقي.

إن خلق بيئة استثمارية مستقرة، وضمان الشفافية، وتوفير الحوافز للقطاع الخاص، يجب أن تكون من أولويات المرحلة الراهنة لضمان أن لا يكون تحسن الريال مجرد انتعاش عابر، بل خطوة في مسار اقتصادي مستدام.

ثامنًا: هل هناك تجارب مماثلة؟

تشبه تجربة اليمن جزئيًا ما حدث في السودان في مراحل ما بعد الانقسام، حيث أدى نقل المؤسسات السيادية والمالية من الشمال إلى الجنوب (والعكس لاحقًا) إلى إرباك نقدي واقتصادي مؤقت، تحسن تدريجيًا بعد توحيد السياسات النقدية وتعاون دولي فعال.

كما أن لبنان شهد انتعاشًا مؤقتًا في سعر الصرف في فترات معينة، لكنه سرعان ما تراجع بسبب غياب الإصلاحات الهيكلية، مما يقدم مثالًا تحذيريًا لليمن.

تاسعًا: المخاطر المحتملة في حال عدم استكمال الإصلاحات

في حال اقتصرت الإجراءات على المعالجات المؤقتة، فإن النتائج قد تنعكس سريعًا، وتشمل:
-    عودة السوق السوداء والمضاربة.
-    تهريب الأموال مجددًا إلى خارج النظام الرسمي.
-    تآكل الاحتياطي النقدي. 
-    فقدان ثقة المواطنين مرة أخرى بالبنك المركزي والبنوك.

عاشرًا: توصيات واستنتاج ختامي

لتحويل هذا التحسن الظرفي إلى مكسب استراتيجي، لا بد من:
1.    توحيد المنظومة المصرفية تحت سلطة البنك المركزي في عدن.
2.    دعم الإنتاج المحلي والصادرات.
3.    تعزيز استقلالية البنك المركزي وشفافيته.
4.    إعادة تنشيط قطاعات النفط والغاز.
5.    إشراك القطاع الخاص في صياغة السياسات الاقتصادية.

خاتمة: بداية إصلاح أم انتعاش عابر؟

التحسن في سعر صرف الريال اليمني هو لحظة فارقة، لكنه ليس مؤشرًا كافيًا على التعافي ما لم تترافق معه إصلاحات مؤسسية، وهيكلية، وسياسية حقيقية. التجربة اليمنية تقف اليوم بين خيارين: البناء على ما تحقق لتحقيق استقرار طويل الأمد، أو التراجع إلى فوضى مالية أشد وطأة مما سبق.

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية