في تفاصيل الثورة الأكتوبرية عام63 تتجلى قصةُ شعب جسور أراد السيادة فاستجاب القدر، وسيرة نضال طويل أمكنه بشراكة الدم والمصير أن يحقق مكاسب عديدة: فقد حمى ثورتين؛ وأنهى أزمنة الوصاية؛ ورد الاعتبار لكرامةٍ عربية جريحة تكالب عليها تحالف استعماري متجبر ضد مصر العروبة ذات نكسةٍ حُزيرانية حزينة عام67..
في زمن الكرامة العربية والزعامة المُلهِمة؛ وُلدت في جنوب اليمن ثورة جبارة؛ أوقد جذوتَها إعصارُ قوميةٍ عروبية اجتاح الوطن الأكبر من المحيط الهادر إلى الخليج الثائر، في زمن عبدالناصر، وهبت رياحها على يمنٍ غارق في الشقاء والتشظي، لتشعل ثورة سبتمبرية شمالا، وثورة أكتوبرية جنوبا، انطلقت رصاصتها الأولى من جبال ردفان فتردد صداها في اليمن كله ليلتحم شطراه في كفاح مشترك نسف الإمامة والاحتلال البريطاني معا، وأرغم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس ان تحمل عصاها وترحل، بعد 129 عاما من الوصاية.
ظل عار الاحتلال يقض مضاجع اليمنيين جنوبا وشمالا، لكنهم لم يكونوا مهيأين لمواجهة مستعمر مدجج بالترسانة المتطورة في زمن الوهن العربي.. غير أن سببين أساسيين أيقظا المارد النائم واشعلا جذوة التحرر: الأول الثورة المصرية عام 1952م وسطوع نجم الزعيم جمال عبدالناصر الذي تبنى مشروعا قوميا رائدا لطرد الاستعمار من المنطقة العربية وتحقيق وحدتها، وكان لشخصيته الكارزمية أكبر الأثر في إشعال حماس الجنوبيين.
أما السبب الثاني فكان انفجار ثورة سبتمبر التي اعتبرها الجنوبيون أساسا لخلاصهم، فقد دعوا لإقامة جبهة قومية في كل اليمن لتعمل على إقامة نظام جمهوري شمالاً، ومن ثم الانطلاق لتحرير جنوبه من الاستعمار.. فكانت عدن منطلقا لثوار الشمال، والشمال منصة لثوار الجنوب، وتلاحموا في نضال مشترك تقاطرت دماؤه من جبال ردفان إلى شواهق المحابشة بمشاركة لبوزة ورفاقه.
فوجئت صنعاء بأفواج المتطوعين من ردفان وأبين وشبوة والضالع ويافع وحالمين والأزارق والصَبَّيحة لمؤازرة سبتمبر، ويوم أن تشارك لبوزة ونجل السلال في جبهات التطوع معاً، ويوم أن رفض لبوزة ورفاقه استلام رواتبهم من الشمال واكتفوا بالسلاح فقط عرفانا للثورة الأم، والشماليون يرسلون قوافل الدعم للجنوب، ويوم أن كان قحطان الشعبي والسلال في صنعاء يجتمعان على طاولة واحدة لإدارة ثورتين، ذاك يمده بمتطوعي الجنوب، والآخر بالسلاح ومعسكرات التدريب، فكان أن اتفقا على عودة لبوزة إلى ردفان ليفجر الثورة ضد المستعمر.
ربما لم تكتب الأقدار للبوزة أن يكمل المهمة، فقد استشهد فور عودته إلى ردفان؛ في معركة أسطورية خاضها ببندقيته ضد مستعمر مدجج بالطائرات والمدافع، لكن استشهاده أشعل الجنوبيين وأعلنوا الكفاح المسلح.. فقد أدركوا عدم جدوى النضال السلمي ضد مستعمر عنيد، وأن مَن طلب الحرية وَهَبَ الدم، فهبت المسيرات الغاضبة من عدن الى الجنوب كله، ثم تحولت إلى عمليات فدائية تقتطف رؤوس المحتل وجنوده، فتوحشت بريطانيا ضربا وقتلا واعتقالا، ودمرت مناطق وقرى بأكملها، ما أغضب المجتمع الدولي الذي ظلت توهمه بأن الوضع مستقر، فأرسل المراقبين لتقييم الأوضاع، ليتفاجأوا بحرب شوارع امتدت لخمس سنوات اذلت كبرياءها.. إلى أن أذعنت مرغمة، واعترفت باستقلال الجنوب في30 نوفمبر 1967م، لتتجلى ثورة جبارة انهت أزمنة الوصاية؛ وردت الاعتبار لكرامة عربية جريحة أهدرها تحالف استعماري أوجع مصر العروبة، ذات نكسةٍ حُزيرانية حزينة!