في منتصف الأربعينيات من القرن الماضي، بعث الأستاذ محمد محمود الزبيري إلى الإمام يحيى حميد الدين رسالة جريئة إلى درجة أن الدكتور عبدالعزيز المقالح اعتبرها "أخطر وثائق الحركة الوطنية على الإطلاق".
يستخلص القارىء من الرسالة أنه حتى "الاستقلال" يمكن أن يتحول إلى شعار فارغ، عديم القيمة تماماً، وذلك ما إن يتبين للجميع أن البديل الوطني المُؤمَّل بعد خروج "الأجنبي" لم يتحقق ولن يتحقق، وإنما هناك فقط عزلة خانقة وانحطاط وتمزق وتخلف وجور ونزوح جماعي إلى المنافي بسبب جبروت الحاكم المتألِّه المعبود!
الحديث هنا تحديداً عن الأوضاع في شمال اليمن عقب سنوات طويلة جداً من لحظة جلاء العثمانيين عنه عام 1918م، تلك اللحظة التي تزامنت مع ظهور مفاهيم "التحرر" و"الاستقلال الوطني" في المنطقة العربية، فانتقلت ببطء إلى الطبقة المتعلمة في اليمن.
وبالاستناد إليها أصبح الإمام يحيى يوصف من بعض أنصاره بـ"بطل الاستقلال"، رغم أن الفكرة الوطنية بمدلولها الحديث تكاد تكون غائبة عن العقيدة المحركة للقتال الذي قاده ضد الأتراك في المرتفعات الشمالية من اليمن وانتهى بصلح دعان 1911م.
هذه مقاطع من رسالة الزبيري:
"لو أنكم فهمتم معنى الاستقلال وفائدته واستغليتم المركز الذي تتمتعون به في صالح الأمة لا في خرابها، أما وأنتم قد ركزتم همتكم ووجهتم أنظاركم لجمع مال الأمة من كل سبيل ومزقتم شملها وهضمتم حقوقها وقبضتم يدكم عن إحداث أي إصلاح فيها وحاربتم الثقافة هذه الحرب الطاحنة، وبلغ البؤس بشعبكم في هذه الآونة أمداً أكل الناس الحمير والقردة وفتوا الروثة والبعرة ليأكلوا حطام الحبوب التي لفظتها أمعاء البغال والخيول، وحتى بلغ الناس من العنف والاضطهاد أن هاجرت النساء أفواجاً إلى عدن فراراً من عنف العسكر وامتهانهم.
وهذه حقائق حاضرة نحن على أتم استعداد في البرهان عليها حتى لا يكون فيها شك ولا ريب...
نعم إن كان هذا هو الاستقلال الذي حصلتم عليه فما أشبه حکومتكم برجل هاجمه عدوّه ليقتل ولده فدافع عنه ومنع العدو عن قتله، ولكنه أخذ مدية كانت حاضرة لديه وطرح ولده على الأرض وأمر المدية على أوداجه ثم قال له: بيدي لا بيدك يا عمرو.
هذا وجه، والوجه الآخر أنكم وإن كافحتم السياسة الأجنبية في عاجل الوقت فإنكم ولا شك قد مهدتم للاستعمار في المستقبل.
إذ أن أمة هرب ربع سكانها إلى الخارج وليس فيها طبيب ولا مهندس، ولا محامي، ولا جرائد ولا مطابع ولا زراعة ولا تجارة ولا صناعة ولا جيش بمعنى الكلمة، فمن المستحيل أنها تدفع عن نفسها تيار الاستعمار الجبار فيما إذا هاجمها ولو بطائرة واحدة.
إن الأمة الحية المتعلمة لا يمكن أن تموت ولو وقعت تحت كل الاستعمار، لأنها لا بد أن تتخلص منه، وأن الأمة الضعيفة الجاهلة لا يمكن أن تعيش ولو خلق الله لها كوكباً مضيئاً يبتعد بها عن الأرض وينجو بها من مخالب الاستعمار.
نعم إنكم لم تسلّموا البلاد إلى الأجانب ولكنكم قطعتم أوصالها وحطمتم قواها وعطّلتم مواهبها حتى إذا مد العدو إليها يده وجدها لقمة سائغة وغنيمة باردة وسيشكر لكم العدو هذا الصنيع ويقدر لكم هذه اليد البيضاء".
تعقيباً على الرسالة، كتب الدكتور المقالح متسائلاً، وهو المدافع الذي لا تلين له قناة عن الزبيري كشاعر وكثائر وزعيم وطني:
"هل في كل هذه الحقائق والحيثيات الواردة في رسالة الأستاذ الزبيري إلى الإمام يحيى ما يكفي لإقناع خصوم الوطن وخصوم ذلك الشاعر التاريخي الذي وضعته ظروف بلاده، ووضعت شعره وكفاحه في أشق امتحان وتحت شروط اجتماعية وثقافية محكومة بأقصى مستويات التخلف والانحطاط ووسط أصعب المعادلات الدولية والعربية؟
وهل فيها ما يزرع الخجل على شفاه وأقلام أولئك الذين يريدون أن يمنوا علينا بالاستقلال المزعوم، وأنهم أغلقوا الأبواب والنوافذ لكي نموت اختناقاً خوفاً من أن تصيبنا ضربة هواء؟!".
المصدر: (الأعمال الكاملة للزبيري ص 387 وما بعدها)