آراء

الشاشات الصغيرة.. العدالة الكبرى: كيف تحولت منصات التواصل إلى أرشيف حي لجرائم الحوثي

صلاح الطاهري

|
قبل 2 ساعة و 4 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

في زمن الحروب والإنهيارات، حيث تتوارى الحقائق وتتبخر الشفافية في ضباب الرصاص والدعاية السوداء، يبرز سؤال وجودي من يكتب التاريخ عندما يُسكت الرصاص كل قلم وكل صوت حُر؟

في الحالة اليمنية، حيث القمع الممنهج والحصار الإعلامي الخانق الذي يفرضه الإنقلاب الحوثي، ظهر شاهد غير متوقع، لكنه كان وطنياً بامتياز:

منصات التواصل الإجتماعي. هذه المنصات، التي بدأت كساحة للتعبير العفوي، تحولت إلى غرفة عمليات للتوثيق، وإلى قاعة محكمة مفتوحة؛ لتُبقي شعلة المساءلة متّقدة رغم كل محاولات الطمس.

لقد غيرت هذه التقنية قواعد اللعبة، ففي الوقت الذي بات فيه دخول الصحفيين الدوليين أمراً أشبه بالمستحيل، وأصبحت فيه الصحافة المحلية المستقلة هدفاً مباشراً للإعتقال والتعذيب، تحول المواطن العادي، حامل الهاتف الذكي، إلى المراسل الأول والأخير. إنها ديمقراطية التوثيق في أبهى صورها، فكل هاتف يحمل الآن القدرة على التقاط دليل وإرساله فوراً إلى العالم.

إن القوة الحقيقية لهذه المنصات تكمن في قدرتها على تحويل اللحظة المروعة العابرة إلى دليل رقمي ثابت. لم تعد الجريمة مجرد رقم جامد في تقرير حقوقي مؤجل، بل هي صورة موجوعة، ومقطع فيديو صادم يوثق بالصوت والصورة القصف العشوائي، المداهمات الليلية، فظائع الألغام، الاختطافات التعسفية، وتجنيد الأطفال القسري،والإعتداءات والنهب والسلب والجبايات وفرض الإتاوات.

وفي خضم هذا الرصد، تكمن قوة التوثيق الوجداني العفوي الذي يكسر كل حواجز المونتاج والدعاية. نتحدث هنا عن لقطات أصبحت أيقونات للمأساة: تلك البنت أو الزوجة التي وثّقت بلوعة لحظة الإعتداء العنيف على والدها أمام منزلهم. ذاك الطفل الذي التقط بعفوية صادمة لحظة إختطاف وأعتقال والده من الشارع وهو برفقته.

ذاك المصلي الصامت الذي فتح كاميرا هاتفه خلسة ليوثق إقتحام الميليشيا للمسجد وإنزال خطيب الجمعة من منبره.

وذلكم الطالب اليائس الذي التقط صورة أخيرة له وزملائه مع معلمهم الذي غيَّبته الميليشيا عنهم وعن أطفاله وأسرته حتي اللحظة. هذه اللقطات، بعيداً عن تقارير المنظمات الرسمية، هي التي تصرخ بالعدالة وتُحرك الضمير العالمي.

هنا يكمن الدور الإحترافي والدقيق للمنظمات الحقوقية اليمنية، التي تتعامل مع هذا السيل من المحتوى بحصافة شديدة.

مهمتهم ليست مجرد النشر، بل تحويل الفيديو العفوي إلى وثيقة ممنهجة قابلة للإستناد إليها؛ لتصبح أدلة أولية لا يمكن تجاهلها عند المطالبة بآلية دولية للمساءلة.

لقد أدرك الحوثيون خطورة هذا "الصحفي غير المرئي"، ففرضوا حجب المواقع وأعتقلوا النشطاء، لكنهم لم يستطيعوا حجب الشمس بالغربال.

منصات التواصل كسرت الحصار بفن التضامن الرقمي. المنشورات العاجلة والهاشتاجات التي تنتشر كالنار في الهشيم، هي بمثابة ملاذ آمن لنقل نبض الشارع اليمني، وتأكيد على الرواية الوطنية التي ترفض منطق الإرهاب والعنف ومشروع الخرافة.

هذا الإنتشار السريع ليس مجرد تفاعل؛ إنه ضغط دولي متجدد يُجبر العالم على عدم نسيان اليمن، مُحولاً الإبداع الرقمي إلى لغة عالمية للتنديد. صحيح أن التحدي الأكبر يكمن في ضرورة التحقق المزدوج لتجنب المحتوى المضلل وهو ضرورة مهنية قصوى، لكن الشجاعة الحقيقية تكمن في أولئك النشطاء والمواطنين الذين يدفعون الثمن الوجداني والباهظ لتوثيق الحقيقة، معرضين حياتهم للخطر ليُصبحوا شهود عدل رغم أنوف القمع.

في المحصلة، فإن منصات التواصل الإجتماعي هي اليوم الدفتر المفتوح للضمير اليمني.

إنها تؤدي دوراً مزدوجاً وقوياً ومتميزاً

هي "كاميرا الحقيقة" التي ترصد الإنتهاكات، وصوت الأمل الذي يُطالب بالعدالة.

لا يمكن لميليشيا أن تحكم بالحديد والنار وهي تعلم يقيناً أن كل فعل سيئ سيتوثق، وأن كل صورة مؤلمة ستُنشر، وأن كل جريمة ستتحول حتماً إلى دليل دامغ في سجل التاريخ وفي ملفات المحكمة. هذه هي القوة الحقيقية للتقنية عندما تُسخر في خدمة الوطن والإنسان، لتؤكد أن عصر الجريمة المثالية قد ولّى بفضل شاشات لا تنام.

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية