ما بين حرب صعدة الأولى التي خاضها الجيش ضد المتمردين الحوثيين في العام 2004 والاستقبال المبهج للوفد السعودي في صنعاء 2023، عشرين عاما من الصراع والأحداث والمتناقضات والغموض والأجندات التي يحرص راسموا وكاتبوا سيناريوهاتها على اخفاء أهدافها الحقيقية ودفنها تحت نيران ما عاشته وعانت منه اليمن من حروب ومعارك وصراعات أكلت الأخضر واليابس وأحرقت أحلام وتطلعات اليمنيين وطحنتهم رحاها التي أُردوا لها أن لا تتوقف.
وبالعودة لقراءة الأحداث التي شهدتها اليمن منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم سنجد أنفسنا أمام الكثير من الملفات التي وإن كانت ملفات حروب صعدة الخمس قد كشفت وقوف طهران وراء اشتعالها وتورطها مع حزب الله اللبناني في إدارة معاركها ونجاحها من خلال وساطة قطرية في التوصل لاعتراف الحكومة بالحوثيين، إلا إن الحرب السادسة التي اندلعت في أغسطس واستمرت حتى فبراير 2009، كشفت تورط أحزاب وتيارات سياسية محلية وقوى اقليمية تعمدت اطالة أمد الصراع واستخدمت الحركة الحوثية لإضعاف الدولة ووجهتها لخدمة مشاريعها وأجنداتها في اليمن.
ملفات مثقلة بالمتناقضات والمخططات سرعان ما كشفت عنها الحرب السادسة وخاصة عندما أدرك المستفيدون من استمرار الصراع أن القيادة اليمنية قررت وضع حدٍ للتمرد وأن معركة القضاء النهائي على الحوثيين أصبحت وشيكة، فقاموا بتغيير واستبدال السيناريوهات وتوجيهها لإنقاذ الحركة التي تلفظ أنفاسها من خلال اشعال معركة خارج ميدانها وفتح جبهة مع المملكة العربية السعودية التي بدت عاجزة عن صد هجوم الحوثيين على معسكراتها في الحد الجنوبي.
سيناريو الفرار بالمقاتلين الحوثيين إلى عمق الأراضي السعودية سرعان ما تحول إلى انتصارات وفتوحات تناقلتها وسائل الإعلام التي تعمدت إظهار السعودية على أنها دولة مستهدفة من قبل جماعات ارهابية فشلت اليمن في القضاء عليها، لتبرير توجهات السعودية لبناء جدار عازل في حدودها مع الجمهورية اليمنية، لحماية مواطنيها في المدن والقرى الحدودية التي أكد سكانها ان الرياض استخدمت الحوثيين لترهيبهم واجبارهم على إخلاء قراهم بعد رفضهم مغادرة قراهم والانتقال إلى المدن البديلة التي قامت ببنائها في مناطق الداخل السعودي.
أصداء المعارك التي خاضها المتمردين الحوثيين في العمق السعودي لم تتوقف عند حدود منح الرياض المشروعية في بناء الجدار الحدودي والاخلال ببنود اتفاقية جدة الموقعة عام 2000 وتنفيذ سياستها في تهجير سكان أكثر من 300 قرية سعودية حدودية فحسب، بل منحت المتمردين انتصارا سياسيا وعسكريا وتعاطفا شعبيا أحدث خللاً في وحدة الصف الداخلي اليمني، وهو ما استغلته قوى يمنية ودولية للضغط على الحكومة وإجبارها على التراجع عن لغة الحسم العسكري، وتحت عناوين السلام تمكنت هذه القوى من فك الخناق عن المتمردين المحاصرين في المناطق الجبلية، ليتحول الحوثي بعد عودته مثقلا بالأسلحة والمعدات العسكرية التي زعم اغتنامها في غزوته المحاطة بالألغاز والغموض، من حركة متمردة إلى قوة معترف بها اقليميا ودوليا.
استغل الحوثيون قرار وقف الحرب ودخول البلاد مرحلة يتصاعد فيها الحديث عن إحلال السلام، لإعادة ترتيب أوضاع الحركة، التي رأوا انها حققت انتصارا سياسيا وانتزعت الاعتراف بها ليس من قبل الحكومة اليمنية فحسب بل واعترافا إقليميا ودوليا منحها الحق والمشروعية في الخروج على الدولة وحول تمردها إلى قضية عادلة تحظى بدعم ومساندة أحزاب وقوى سياسية يمنية بدأت برفض إدانة التمرد وانتهت بتبني قضية الحوثيين ومطالبة النظام السياسي والجيش بالاعتذار عن الحروب التي خاضتها ضد المتمردين في صعدة.
توقفت حروب صعدة لكن ولأن المؤامرة لم تتوقف اتجه المتمردون والمتعاطفون والمساندون والداعمون لتنفيذ سيناريو جديد استهدف اسقاط النظام السياسي وتدمير مؤسسات الدولة وادخال اليمنيين مرحلة من الثأر السياسي وعدم الاستقرار التي بدأت بهيكلة المؤسستين العسكرية والأمنية والانقلاب على مؤسسات الدولة الدستورية والقانونية ومصادرة الإرادة الشعبية في عملية التبادل السلمي للسلطة، وانتهت باستقواء حلفاء فبراير بالخارج وإدخال اليمن تحت مظلة البند السابع والوصاية الدولية وتحويلها من دولة ذات سيادة وكيان مستقل إلى ملف وغنيمة على طاولة التناقضات والأطماع الدولية والإقليمية التي رأت أن سيناريو الحرب والفوضى والانهيار الاقتصادي أفضل وسيلة لإخضاع الشعب اليمني وإجباره على القبول والتعايش مع ما سترسمه سيناريوهاتها من خارطة.
بذات السيناريو الذي انتهت إليه حرب صعدة السادسة، أوكل للحوثيين في العام 2015 اشعال فتيل الحرب والانتقال باليمنيين من مرحلة الصراع الداخلي إلى مرحلة الصراع مع الجوار الإقليمي الذي سرعان ما التقط الشرارة واستند على مناورة الخواء العسكري التي نفذتها مليشيا الحوثي بالقرب من الحدود السعودية لتكوين تحالف عربي يحظى بدعم أممي ومساندة غربية والتدخل عسكريا في اليمن موكلة للطرف الآخر "الشرعية" مهمة استدعائه ومنحه مشروعية التدخل، وهاهي الحرب وها هو التدخل العسكري ينتهي اليوم بذات السيناريو الذي انتهت إليه حروب صعدة ويتجه نحو الاعتراف بالحوثيين ليس كحركة وتيار سياسي وإنما كدولة وكيان وخارطة سياسية، ما يشير إلى أن الحرب التي دمرت اليمن وعانى منها اليمنيين طيلة تسع سنوات، امتداد للحرب التي شهدتها عقب ثورة سبتمبر الخالدة بين الجمهوريين والملكيين