أما بعد..
قبل أشهر تقطعت سبل الحياة بكثير من الشباب اليمنيين في مقاطعة ووهّان الصينية، انقطعت عنهم الحياة وضاقت بهم الأرض وصارت الأحلام عليهم معجزات، في تلك الفترة تحديدًا وبسبب الإغلاق التام الناجم عن فيروس كورونا تحولت مدينة ووهان الصينية إلى سجن كبير للبشر، خصوصًا اليمنيين منهم، كان الأمر انقطاع مصير وفقدان أمل ومتاهة بعيدة لن ترحم اليمنيين في بلاد الانقطاع البعيدة، لا فضاء أمامهم للعبور، ولا طريق خلفهم للعودة، ولا أموال لديهم للبقاء، ولا طعام بمتناول أيديهم، كان كل شيء على غير عادته في مجتمع مادي رقمي، مجتمع بعيد كليًا عن تفقد الآخرين والنظر فيهم، كان الطلاب اليمنيون هناك بمفردهم، وهذا بالطبع بخلاف معظم مواطني العالم، وحيدون بلا دولة، ولا سفارة، ولا وزارة، ولا أمل يترنحون عليه في البلدان البعيدة، كانوا يناشدون الرئاسة، والسفارة والسفير، والحكومات البعيدة، لم يهتم لهم أحد ولم يتفقدهم أحد، ولم يعطهم أحد عربونًا بالمجان، في ذلك الزمن القادم من حظوظ اليأس العظيم علينا، ظهر رجل قديم من الماضي، رجل لم يتوقعه أحد ولم يتخيله أحد، رجل قضى حياته بصمت ومارس سلطته في زمانه باحترام، وحين غادر لم يملأ الدنيا ضجيجًا من ذهابه العظيم..!!
يومها ظهر أحمد علي عبدالله صالح، نجل الرئيس السابق علي عبدالله صالح وأعلن عن نيته إرسال طائرة خاصة لنقل الطلاب والعالقين اليمنيين في ووهان الصينية إلى اليمن، لم يتوقع أحد حدوث معجزة يومها، لكنها بالفعل معجزة عن نفوس حقيقية ما زالت تعرف الله وتعرف شعبها، بعد إعلانه وتبنيه للقضية، منعت منظمة الصحة العالمية حركة الخروج من تلك المقاطعة التي يعيش فيها أكثر من عشرة ملايين مواطن، كانت الصدمة وردة اليأس في نفوس اليمنيين بالغة خصوصًا مع إفلاسهم وانقطاع مستحقاتهم، هذا اليأس لم يكن النهاية، ولم يصبح مماطلة سياسية، كما يجري في عاداتنا، يومها خرج الرجل بنيته وصدقه، لم يخلق التبريرات والأعذار كما يفعل عاجزو السلطة ووزراؤها وسياسيوها، هنا يكون الأمر اختبارًا حقيقيًا عن الإخلاص في الظهور والإنسانية، هل إنسانيتك صادقة، أم مجرد أخبار تصطنع منها مستقبلك..؟!
بعد عدة أيام فقط، أعلن مكتب أحمد علي عبدالله صالح عن الحل ببساطة وإخلاص بلا مقدمات أو تعبيرات أو إنشاءات أو خطابات أو كلام فارغ، يومها أعلن قائلًا:
وجه السفير أحمد علي عبدالله صالح بتحويل مبالغ مالية لأخوننا الطلاب اليمنيين في مقاطعة ووهان الصينية لعدد 220 طالبا يمنيا على النحو التالي:
1500 دولار للطلاب العزاب.
2500 دولار للطلاب الذين يعيشون مع عوائلهم.
تأتي هذه المساعدة المالية بحيث يتمكن الطلاب من الانتقال إلى مقاطعة أخرى آمنة أو البقاء في أماكن سكنهم وتوفير متطلباتهم على الأقل في الظروف الحالية خصوصًا في ظل الأوضاع المعيشية الصعبة التي يعانونها والظروف الصحية السيئة مع انتشار الوباء هناك..
انتهى الخبر..
أما بعد..
الواقع السياسي اليمني محير للغاية، هذا بكل تأكيد، بل ومليئ بتشوهات وتراكمات ما زالت مطلقة الأحكام القطعية في أفكار الآخرين..
لكننا لسنا كذلك..!
كما يقول الشاعر الأمريكي هيرمان ملفيل، بالتأكيد نحن قادرون على أن نكون عقلانيين ومنطقيين، لكن المشكلة تكمن في أننا لا نريد ذلك دائمًا. هذا المنطق يشعرنا بالملل، لذلك نطمح أحيانا ونحتاج إلى القليل من الفوضى، أو حتى الكثير منها.. ولكن لماذا تتغيّر المواقف في تجاربنا السياسية على وجه الخصوص؟
وجه الاختلاف والتغير المنطقي يأتي دائمًا عندما يواجه الأشخاص التقييمات الزائفة للآراء ويكونون مقابلها في حِلّ واضح من الدوافع التي تقودهم عادةً إلى الدفاع عن أنفسهم أو أفكارهم من الانتقاد الخارجي، وبدلًا من ذلك، يُمكنهم النظر إلى مزايا الموقف البديل.
هذا ما يدفعني اليوم للكتابة عن شخص أحمد علي عبدالله صالح، العميد والسفير والغامض والقوي، وربما الرجل الضعيف والبراجماتي والمختلف بتاتًا، لكنه ليس بذلك الشكل المخيف في تصورات المزايدين عليه..
صدقوني.. لا أحد يجيد تفسير قورة الرجل وتعاطياته، لكنه وفي كل مرة يثبت لنا حقًا أنه رجل محترم، وسياسي يحمل بداخله الكثير من الأخلاق، وهذا كله يعكس صورة حقيقية عن رجل قوي وذكي وشخص يجيد التحكم جدًا بمشاعره وعواطفه..!
حسابيًا، وعسكريًا، وسياسيًا، توفرت لـ العميد أحمد علي عبدالله صالح صلاحيات دولة، كان بإمكانه الخوض كما يفعل الطامعون الصغار، لكنه نأى بنفسه وأسرته، وآثرهم جميعًا ثم ذهب صامتًا يتابع المزايدات والهلوسات والمبالغات، بقي في مكانه، رجلًا مدنيًا يمارس حياته بهدوء، حتى بعد قتلهم لوالده. لم يصرخ ولم يزايد، ولم يبالغ، ولم يخرج للتهديد، ظهر يومها يستقبل التعازي والمواساة كأحد المواطنين المنفيين من وطنه وبيته، لا أحد يفعل كثيرًا كهذا الرجل في السياسة والخيالات، في الجانب الآخر من الحكاية، تأملوا الرجال الآخرين، ما زالوا إلى اليوم يتوعدون ويهددون ويجلبون المزيد من الكراهية والدمار، لم يكفهم ما يحدث لشعبهم بفعل أيديهم، وفي الحقيقة لا أحد يجيد الاحترام في السياسة غير المحترمين فعلًا من بيوتهم، الاحترام والأخلاق تخلق أولًا من سيادة الأم ورجولة الوالد، وهذا شاهد كبير عن أبناء علي عبدالله صالح، جميعهم فعلًا يحترمون أنفسهم ومكانتهم وماضيهم، ويحترمون شعبهم وشكلهم وهويتهم، ولا يتنازلون أبدًا عن أصولهم ومظاهرهم وكبريائهم..!
لم يغيرهم الواقع الإقليمي على الإطلاق، ولم تأخذهم خسائرهم الفادحة للنيل من حقيقتهم، لم يتغيروا أبدًا، ولم يتملقوا أحدًا، ولم يظهروا بتاتًا بذلك الشكل من العقال والبياض، وتلك الهيئة الهشة من الانفصال اليمني عن أصله، هذا ما سجلته الأيام والمجريات عنهم، وهذا الواقع هو ما يجري بالفعل عنهم منذ سنوات..!
أخيرًا:
هو رجاء وأمنية، تجاوزوا كل شيء عن الماضي والشكوك والمخاوف، وتخيلوا ما نحن فيه اليوم من غوغاء وجحيم وضياع، تخيلوا ما صنعه الضجيج فينا نتيجة الغرور والأطماع الباغية، ومع هذا كله سأتمنى دائمًا أن نصبح منصفين مع واقعنا وتناولاتنا مع الأشخاص.!
نحن في عالم مجنون لا أكثر، وفي وطن تجاوزت تعقيداته حد الجنون، وهذا يدعونا للجنون والضحك أيضًا، ومعه نحن بحاجة لاستيعاب الجنون والتناقض والتعقيد والحكم بتوازن معرفي حقيقي والتعامل مع قضاياه وفق مدلولاته غير العقلانية، إننا نميل إلى افتراض أن الناس يفعلون أشياء ويرغبون في أشياء أخرى لأسباب وجيهة. ولكننا في أحيان كثيرة نسعى وراء أشياء لا معنى لها نظرًا لأنها قد تكون ضارة بشكل واضح. وعندما يحاول شخص ما التفكير بعقلانية معنا، ويشير إلى جميع الأخطاء الواقعية والمنطقية التي نرتكبها، فإننا نتجاهله ونستمر فيما عهدناه.
إن هذا العالم محير للغاية، ولكننا بالتأكيد قادرون على أن نكون عقلانيين ومنطقيين، لكن المشكلة تكمن في أننا لا نريد ذلك دائمًا. هذا المنطق يشعرنا بالملل، لذلك نطمح أحيانًا ونحتاج إلى القليل من مقاومة الحقيقية ومساندة القناعات القديمة، أو حتى الحالية منها..