في ضحى يوم 24 يونيو سنة 1978 دوى انفجار داخل القيادة العامة للقوات المسلحة في صنعاء.. كان رئيس الجمهورية العربية اليمنية (شمال اليمن) أحمد حسين الغشمي في مكتبه بالقيادة العامة ينتظر استلام الرسالة الخطية التي أرسلها إليه الرئيس سالم ربيع علي (سالمين) رئيس جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية(جنوب اليمن)، بوساطة مبعوث شخصي، يدعى مهدي أحمد صالح، واشتهر باسم تفاريش.. ولكن ما حدث هو أن الحقيبة التي كان يحملها تفاريش لم تحتوي على رسالة خطية، بل مادة شديدة الانفجار قتلت الرئيس الغشمي، ومعه قتل تفاريش أيضا.. حتى الآن هناك روايتان رئيستان لما حدث، وهما إما أن تفاريش الذي سبق له القتال في جنوب لبنان إبان الغزو الإسرائيلي، تم وضعه مكان المبعوث الشخصي الحقيقي للرئيس سالمين، وإما أن الحقيبة التي كانت تحتوي على الرسالة الخطية تم تغييرها بأخرى ملغومة، وهذه رواية ضعيفة، إذ كيف لم يلاحظ الرجل اختلاف وزن حقيبة تحتوي على أوراق، عن حقيبة فيها جسم متفجر؟ والأرجح إن هذه الحادثة دبرت بمعزل عن الرئيس سالمين للتخلص منه، فقد كان يوصف بأنه زعيم تيار اليسار الانتهازي، وربما أيضا للتخلص من الرئيس الغشمي الذي يعتقد أن له دوراً في قتل الرئيس إبراهيم محمد الحمدي.
لقد ترتب على حادثة القيادة العامة، حدث مماثل في عدن، حيث اتهم الرئيس سالمين من قبل خصومه في التنظيم السياسي الموحد- الجبهة القومية، باغتيال الرئيس الغشمي، ليتخلصوا منه، وهذا ما حدث بالضبط، حيث جرت مواجهات عسكرية بين الرئيس سالمين وأنصاره من جهة، وبين خصومه من جهة ثانية، انتهب بقتله في قصر المدور بالتواهي بعدن، وذلك بعد مقتل الغشمي بيومين فقط (26 يونيو).
قبل مقتل الرئيسين الغشمي وسالمين، قتل الرئيس الشمالي إبراهيم الحمدي في شهر أكتوبر 1977 بينما كان يتهيأ لزيارة عدن للمشاركة في الاحتفال بمناسبة الذكرى السنوية لثورة 14 أكتوبر ولإجراء مباحثات مع الرئيس سالمين حول إعادة تحقيق الوحدة اليمنية.
وفي حقيقة الأمر، إن العلاقة المضطربة بين الحكومتين في شمال اليمن وجنوبه، تعود إلى ما قبل هذه الأحداث.. فبعد قليل من استقلال الجنوب عن بريطانيا قام النظام في صنعاء باحتضان المعارضة الجنوبية عام 1968، وعين 17 معارضا أعضاء في المجلس الوطني بصنعاء لتمثيل الجنوب، كما استدعي الزعيم السابق لجبهة التحرير الجنوبية عبد القوي مكاوي من القاهرة، لتكوين تحالف جنوبي جديد في صنعاء ضم معارضين جنوبيين، وقد تولى مكاوي وعبد الله الأصنج الجناح السياسي للتحالف، بينما تولى القائد الجنوبي السابق عثمان عشال قيادة الجناح العسكري، وبالتنسيق مع بعض أركان نظام رئيس المجلس الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني، قامت مخابرات بعض دول الجوار بتنظيم صفوف تلك المعارضة وتجنيد المواطنين الجنوبيين الذين نزحوا إلى الشمال، وفتحت مراكز تدريب لهم في صنعاء وتعز وغيرهما، ومن ثم توجيه تلك القوات نحو الضالع وأبين لإسقاط النظام الجنوبي الموالي للمعسكر الاشتراكي، حيث شنت هجمات على القوات الجنوبية في مناطق التماس ونفذت أعمالا تخريبية في العمق الجنوبي، وحدث هذا بصورة واضحة وقوية أثناء الحرب التي اشتعل أوارها في سبتمبر عام 1972بين الشمال والجنوب، وكان من ضمن محفزاتها مقتل ستين شيخا شماليا في شبوة كان أبرزهم الغادر والهيال وحنتس بينما كانوا في طريقهم إلى عدن للسفر منها إلى العراق.. وبالمقابل قام النظام في عدن بتبني المعارضة الشمالية، وهي عبارة عن ستة أحزاب يسارية وقومية تكتلت في إطار سياسي واحد سمي الجبهة الوطنية الديمقراطية منذ 11 فبراير عام 1973، واتخذت من المناطق الوسطى لليمن الشمالي ساحة للعمل المسلح ضد السلطات المتعاقبة في صنعاء، بدعم مباشر من النظام في عدن، واستمر نشاط هذه الجبهة إلى مطلع ثمانينيات القرن العشرين.
بعد مقتل الرئيس الغشمي حل مكانه رئيس انتقالي هو القاضي عبد الكريم العرشي الذي تولى الرئاسة مؤقتا بحكم أنه رئيس مجلس الشعب التأسيسي.. وبعد مضي الفترة الانتقالية يوم 17 يوليو عام 1978 انتخب مجلس الشعب التأسيسي في صنعاء المقدم علي عبد الله صالح رئيساً للجمهورية.
لم تكن المحصلة التراكمية لتلك الأحداث هي التحدي الكبير الوحيد أمام الرئيس الجديد على عبد الله صالح.. ففي الوقت الذي تولى فيه الرئاسة في ظل ظروف سياسية معقدة غلبت على علاقتي الشمال والجنوب، وظروف سياسية أكثر تعقيدا في الشمال، الذي ساد فيه فراغ سياسي نتيجة فقد هوية واضحة للحكم، وعدم توافر فرص التغيير السياسي السلمي، فضلا عن غياب التنمية الاجتماعية والاقتصادية، بينما كانت الساحة تموج بحركات سياسية متنافرة ومتصارعة، إذا به يواجه بتحديات أخرى في وقت مبكر من توليه الرئاسة، فبعد نحو شهرين من ذلك قام الناصريون في منتصف أكتوبر 1978 بمحاولة انقلاب عسكري للإطاحة به، لكن الانقلاب أُفشل في اليوم نفسه، وبعد أشهر قليلة من ذلك الوقت نشبت في شهر فبراير 1979 الحرب الثانية بين الجنوب والشمال، ومثلت تحديا صعبا للرئيس الجديد الذي لم يوطد علاقاته بالقوى المجتمعية، ولم يرسخ قدميه في السلطة بعد، حيث اجتاحت القوات الجنوبية وقوات المعارضة الشمالية- الجبهة الوطنية الديمقراطية، المدعومة من الجنوب، مناطق شمالية بسرعة كبيرة غير المناطق التي كانت تسيطر عليها الجبهة في المنطقة الوسطى منذ بدايات سبعينيات القرن العشرين، وكانت الذريعة هي تحقيق الوحدة اليمنية بالعمل الثوري بعد فشل الأساليب السلمية، كما أن الجبهة الوطنية الديمقراطية ازدادت قوة وتجهيزاً جراء حصولها على دعم ليبيا معمر القذافي الذي سعى لهزيمة صالح انتقاماً لبعض القياديين الناصريين الذين حكم القضاء بإعدامهم بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
لقد كانت هذه المقدمة ضرورية لوضع القارئ الجديد، أو غير المطلع، في الفضاء الاجتماعي العام الذي جاء إليه الرئيس علي عبد الله صالح، كما أن هذه المقدمة تلقي بعض الضوء على الطريقة التي سيتبعها في مواجهة التعقيدات السياسية والاقتصادية والعسكرية. وفي الحلقة التالية سوف نعرض- ببعض التفصيل- لجانب من هذه الطريقة، ونقدم بعض الشواهد التي نتجت عنها.