آراء

مُصُوغة بدوي

انور الحوثري

|
قبل 1 ساعة و 58 دقيقة
A-
A+
facebook
facebook
facebook
A+
A-
facebook
facebook
facebook

مساحات ملغومة بين ريشة عزف آلة العود وبين تهجي الغناء بصوته القوي السلسبيل وهناك أماكن في جزيرة الدهشة لم نتقن الحديث عنها في أساليب المبدع الراحل بدوي زبير ، لا شك اننا معجبون ومندهشون بما يصدر عنه من تجليات مفاجئة ومتنوعة في غنائه و احاديثه وضربات ايقاعاته الشعبية وفي مجموع مايتحرك فيه من علاقات الطرب وفعل الخير ودعاباته المطرزة بالحيوية والتألق ولكن هناك جزئية في عالم ادائه الطربي نراقبها ونأنس لها ولكن لانستطيع تشخيصها ، هذه الجزئية ليست ( سنكبة) فحسب، وليست ترحيلاَ نغمياً يجعل ارتكاز إيقاع الأغنية على كف عفريت في تطريب بدوي بل و يجعل الإيقاعيين في حذر وتركيز خوفاً من الوقوع في المحظور، وإنما هناك آيات يتشابك فيها المعقول باللامعقول.. هي نفس الأغاني التي يؤديها الفنانون الآخرون بشحمها ولحمها بألحانها وكلماتها ولكن في ( مصوغة بدوي ) - إن جاز التعبير - تتحوّل الفضة إلى ذهب ، وتتحول المطرقة إلى ريشة تتمرد على زمن الإيقاع وتصونه ، ليس هناك من يتقن ابتداع نقوش التحفة الذهبية مثل بدوي، أشياء يستغلق فيها استقصاء المدى الذي يمنحك - انت ياالمستمع - فهم الخلطة السحرية التي تخص بدوي وتعتبر من أسراره الخاصة التي رحل واخذها معه في كافور الكفن والدخون.

جلسنا مع بدوي كثيراً وتجانسنا في نشوة السامعين وكنا قاب قوسين او أدنى من ملامسة الجوهرة التي يصدر عنها البريق تلك الجوهرة التي نرى اشعاعها ولكننا لانستطيع ملامستها بشكل مباشر، وقد سألته ذات نهار في سوق الشحر قائلاً : ماالفرق بينك وبين محمد جمعة يابوصالح ؟ هل تشعر انك اقتربت من طريقته في الغناء ؟.. فما كان من بدوي الا ان ضحك مازحاً وجذبني إليه واحتضني بطريقته المعروفة وقال : وين نحن ووين محمد جمعة لا نستطيع ان نوصل إلى مستواه في الصوت والعزف والطريقة.. كانت اجابته ذكية تعكس بساطته وتواضعه واسلوبه الشعبي في الكلام، ولكن انا من جانبي كنت اتفهم مايخفيه بدوي من اعتزاز بفنه وطريقته ومااضافه للأغنية الحضرمية من رصيد ملفت في اغنيات الدان الريّض وفي ما قام بتأليفه من اغنياته الشخصية وما كان يتفرد به من طريقة ضرب ايقاعات الزربادي والإستماع والسماع وغيرها وكيفية الإنشاد فيها بطريقته التراثية المعتقة.

ولازال السؤال يطرح نفسه ويتجدد وسوف يستمر : ماالذي يكمن بين ريشة عزف الفنان بدوي زبير وبين ادائه الصوتي لحظة الخروج المؤقت عن الإيقاع بالسنكبة ؟ هل مساحات الخروج والإنفلات هي نفسها في كل مرة شبيهة بأختها ؟ وهل تتفاوت الأزمان حسب نوع الإيقاع التراثي وحسب مهابة المناسبة والحضور ونوعية المكان والأشخاص المحيطين به ؟ هناك لغز او لغم إبداعي ينبغي علينا تفكيكه بجهود تقنية عالية الجودة من متخصصين في علم الموسيقا وعلم الجمال، وهم بالطبع نادرون في بلادنا ، واتذكر حديثاً جمعني بالمايسترو المكلّاوي الأستاذ الراحل احمد مفتاح عن هذه الجزئية في غناء الراحل بدوي زبير وكان ( السي احمد) من اشد المعجبين بفنون بدوي ، قال لي : ان هضم بدوي للإيقاعات الشعبية ( الزربادي والإستماع والسماع و وو ) جعله متمكناً في الغناء الطربي بطريقة الترحيل والسنكبة.. وعندما نقلت للمرحوم بدوي ماقاله احمد مفتاح في اتصال هاتفي من المكلا إلى شبام - قبيل فاجعة وفاة بدوي بأسبوع تقريباً - طلب مني بوصالح نقل تحياته وامتنانه للأستاذ احمد ثم اوصاه بضرورة تنويت الأعمال الغنائية التراثية الصعبة لحمايتها من التطاول والتحريف وقال ( عاد معنا احمد مفتاح مستامنين عليه) هكذا هي لغة المبدعين الكبار وهكذا يرحلون في صمت دون ضجيج إلا من رصيدهم الطربي الذي يحتاج مننا إلى تشخيصه بالدراسة والدراية ومعرفة أسراره الخفية.

بقلم انور الحوثري

نوفمبر 2025م

جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية
جميع الحقوق محفوظة © قناة اليمن اليوم الفضائية