طالما كان المتصفّح بوابتنا الهادئة إلى العالم الرقمي. إنه أداة حيادية وظيفتها نقلنا من موقعٍ إلى آخر، دون أن تتغيّر كثيراً في جوهرها. لكن في عام 2025، تغيّر كل شيء تقريباً.
فالنوافذ التي كنا نكتب فيها عناوين الصفحات بدأت تتحدّث معنا، وتفهم ما نريد قوله قبل أن ننتهي من الكتابة.
لقد دخل الذكاء الاصطناعي إلى المتصفّح نفسه، ليحوّله من مجرّد أداة عرض إلى شريك تفكير رقمي. جيل جديد من المتصفحات الذكية يُعيد تعريف تجربة القراءة والبحث والتفاعل على الإنترنت؛ حيث لا تكتفي هذه المتصفحات بعرض المعلومات، بل تفسّرها، وتلخّصها، وتقترح ما يليها. وفي الشرق الأوسط؛ حيث التحوّل الرقمي واللغة العربية في قلب الاستراتيجيات الوطنية، يبدو هذا التحوّل خطوة جديدة نحو مستقبل أكثر تفاعلاً وذكاءً.
حين يصبح الويب مفكّرًا
أسماء جديدة بدأت تبرز بقوة في هذا المجال، مثل: «Perplexity Comet»، و«Brave Le»، و«Opera Neon»، إلى جانب «Google Chrome» الذي بات يعتمد على نموذج «Gemini» الذكي.
هذه المتصفحات لا تشبه نظيراتها التقليدية التي تعتمد على إضافات أو محركات بحث خارجية، بل تضمّ نماذج لغوية ضخمة مدمجة مباشرة في بنيتها. يمكن للمستخدم أن يحدّد فقرة ليطلب شرحها، أو يسأل سؤالاً ليحصل على إجابة فورية مستندة إلى مصادر موثوقة. بعض هذه المتصفحات يستطيع أيضاً إعادة صياغة النصوص، أو كتابة بريد إلكتروني، أو تلخيص تقرير كامل خلال ثوانٍ.
وبالنسبة لمستخدمين يعيشون في بيئة متعددة اللغات، كالخليج، فإن هذا التطوّر لا يُعتبر تحسيناً تقنياً فحسب، بل نقلة نوعية. فالإنترنت لا يزال يغلب عليه المحتوى الإنجليزي، بينما يحتاج المستخدم العربي إلى أدوات تفهم لغته وسياقه الثقافي، دون أن تُترجم له العالم ترجمة حرفية.
ساحة اختبار مثالية
يرى خبراء أن المنطقة العربية، وبالأخص الخليج، تجمع اليوم بين ثلاثة عوامل تجعلها الأنسب لاحتضان هذا النوع من التقنيات. انتشار الإنترنت بمعدلات شبه كاملة واستثمارات ضخمة في البنية التحتية والذكاء الاصطناعي ومجتمع شابّ متعطّش للتقنيات الجديدة.
تشير بيانات الاتحاد الدولي للاتصالات إلى أن نسبة استخدام الإنترنت في السعودية تتجاوز 98 في المائة، وأن معدلات انتشار الهواتف الذكية تفوق 130 في المائة. ومع وجود رؤية وطنية مثل «رؤية السعودية 2030» التي تضع الذكاء الاصطناعي في قلب التنويع الاقتصادي، تصبح بيئة المملكة والإمارات أرضاً مثالية لتجربة المتصفحات الذكية.
لكن التحدي الأكبر لا يزال لغوياً. فالمحتوى العربي لا يشكّل أكثر من 3 في المائة من محتوى الإنترنت العالمي، رغم أن الناطقين بالعربية يفوقون 400 مليون شخص. وهنا يأتي دور المتصفحات الذكية في سدّ هذه الفجوة عبر الترجمة الفورية والتلخيص الذكي وإنشاء المحتوى بلغتين في الوقت نفسه.
البحث يتحوّل إلى شريك
من بين المتصفحات الجديدة، يبرز «Perplexity Comet» كواحد من أكثرها طموحاً؛ فهو يجمع بين البحث والمحادثة والأتمتة في واجهة واحدة. يستطيع «كومِت» قراءة عدة صفحات في الوقت ذاته، وتلخيصها، ثم تقديم إجابة دقيقة للمستخدم استناداً إلى مصادر موثوقة. هذه الميزة قد تغيّر طريقة عمل الصحافيين والأكاديميين والباحثين في المنطقة؛ خصوصاً مَن يتعاملون مع مصادر بلغات متعددة. المتصفح يدعم اللغة العربية في التفاعل، فيمكن للمستخدم أن يسأل بالعربية ويحصل على إجابة مفهومة ومدعومة بالمراجع. إنها أداة يمكن أن تساعد مراكز الأبحاث والجامعات في المنطقة العربية على تحليل كمّ هائل من البيانات والمصادر بكفاءة تتماشى مع التوجهات البحثية للذكاء الاصطناعي في المنطقة.

يركز متصفح " Brave Leo " على الخصوصية وحماية البيانات محليًا في انسجامٍ مع سياسات الأمن السيبراني السعودية والإماراتية (شاترستوك)
يركز متصفح " Brave Leo " على الخصوصية وحماية البيانات محليًا في انسجامٍ مع سياسات الأمن السيبراني السعودية والإماراتية (شاترستوك)
الخصوصية قبل كل شيء
بينما تسعى معظم الأدوات الذكية إلى جمع بيانات المستخدمين، اختار متصفح «Brave» طريقاً مختلفاً. المساعد المدمج فيه، المعروف باسم «ليو» (Leo) يعمل غالباً بشكل محلي على الجهاز دون الحاجة إلى إرسال البيانات إلى خوادم خارجية أو حتى تسجيل دخول المستخدم. هذا التوجّه في الخصوصية بالتصميم ينسجم تماماً مع التوجّهات السيبرانية في الخليج. فالسعودية عبر الهيئة الوطنية للأمن السيبراني (NCA)، والإمارات عبر مجلس الأمن السيبراني، تضعان قواعد صارمة لحماية البيانات، ومنع انتقالها عبر الحدود دون رقابة. وفي سوقٍ تزداد فيها الحساسية تجاه البيانات، يصبح متصفح يجمع بين ذكاء اصطناعي قوي وحماية خصوصية حقيقية خياراً مثالياً.
بداية عصر الوكلاء الرقميين
أما متصفح «Opera Neon»، فيأخذ المفهوم إلى مستوى جديد تماماً. نسخته الجديدة في 2025 تقدّم ما تسميه الشركة «الذكاء الوكيلي» (Agentic AI)، أي أن المتصفح لا يكتفي بالتفاعل، بل ينفّذ مهام نيابة عن المستخدم، مثل جدولة الاجتماعات، أو كتابة الأكواد البرمجية، أو تحليل المستندات. هذا النوع من المتصفحات يتناسب تماماً مع بيئات المدن الذكية، مثل «نيوم» في السعودية، وغيرها في مدن أخرى، حيث يمكن للمتصفح أن يعمل كمساعد رقمي شخصي يدير البيانات ويبسّط التفاعل مع الخدمات الحكومية والمؤسساتية.
بكلمات أخرى: «نيون» يجعل المتصفح زميل عمل رقمياً أكثر منه برنامجاً تقليدياً.

نموذج «جيمناي» يمثّل دمجًا مباشرًا للذكاء الاصطناعي داخل المتصفح، حيث يحوّل البحث إلى تجربة تفاعلية محادثية (شاترستوك)
نموذج «جيمناي» يمثّل دمجًا مباشرًا للذكاء الاصطناعي داخل المتصفح، حيث يحوّل البحث إلى تجربة تفاعلية محادثية (شاترستوك)
الذكاء للجميع
المتصفح الأشهر في العالم «Google Chrome» لم يبقَ بعيداً عن السباق. فقد دمجت «غوغل» نموذجها الذكي «جيمناي» (Gemini) مباشرة في المتصفح، مما جعل البحث نفسه تجربة تفاعلية محادثية. يمكن للمستخدم طرح سؤال بلغة طبيعية ليحصل على ملخص من مصادر موثوقة، أو أن يطلب من المتصفح كتابة ردٍّ في البريد أو إعادة صياغة نص في «مستندات غوغل».
ولأنّ «كروم» هو المتصفح الأكثر استخداماً في الشرق الأوسط، فإن هذه الخطوة تُمثّل انتقالاً سلساً للمستخدم العربي إلى التصفح الذكي دون الحاجة إلى تعلم واجهات جديدة. كما أن تركيز «غوغل» المتزايد على دعم اللغة العربية في منتجاتها يجعل التجربة أكثر محلية وملاءمة لاحتياجات المستخدم الخليجي.
الثقة والسيادة الرقمية
كل هذه المزايا تأتي مع سؤالٍ كبير: أين تذهب البيانات؟ فالمتصفحات الذكية تقرأ سياق المستخدم وتتعامل مع بيانات حساسة من عمليات البحث إلى السجلات الشخصية. ولهذا، بات الامتثال لمتطلبات السيادة الرقمية محوراً أساسياً. في السعودية، مثلاً، تتوسع مبادرات الحوسبة السحابية السيادية والمراكز الوطنية للبيانات لتأمين المعالجة داخل حدود الدولة. هذا يعني أن أي متصفح ذكي يُراد له النجاح يجب أن يتكيّف مع هذه السياسات. في المقابل، تُظهر نماذج مثل «Brave Leo» و«Perplexity Comet» اتجاهاً جديداً نحو الشفافية في التعامل مع البيانات. أما «أوبرا» فتُدمج خوارزميات أمنية لرصد محاولات الخداع والتصيّد المبنية على الذكاء الاصطناعي.

يبقى التحدي الأكبر لغويًا، إذ تمثّل المتصفحات الذكية أداةً لسد الفجوة في المحتوى العربي من خلال الترجمة الفورية وتوليد النصوص ثنائية اللغة (شاترستوك)
يبقى التحدي الأكبر لغويًا، إذ تمثّل المتصفحات الذكية أداةً لسد الفجوة في المحتوى العربي من خلال الترجمة الفورية وتوليد النصوص ثنائية اللغة (شاترستوك)
من محرك بحث إلى شريك معرفة
التحوّل الأكبر ليس في الشكل، بل في الوظيفة. فالمتصفحات الذكية تُعيد تعريف مفهوم البحث نفسه. لم يعد المستخدم يكتب كلمات مفتاحية، بل يطرح سؤالاً كاملاً ليحصل على إجابة مفسّرة وموجزة.
في التعليم، يمكن لهذا التطور أن يُحدث نقلة نوعية. تخيّل طالباً في جدة يكتب في المتصفح: «ما تأثير تحلية المياه على البيئة في الخليج؟»، ليحصل في ثوانٍ على إجابة مختصرة متوازنة، مدعومة بمراجع عربية وإنجليزية، ومبسطة حسب المستوى الدراسي.
لكن هذا التحوّل يستدعي أيضاً رفع الوعي الرقمي. فكلما أصبحت المتصفحات أكثر «ذكاءً»، زادت الحاجة إلى فهم كيفية التحقق من مصادر المعلومات وتجنّب التحيّز. ولهذا بدأت وزارات التعليم في المنطقة تضمين مهارات التعامل مع الذكاء الاصطناعي ضمن مناهجها.
الارتباط بالاستراتيجيات الوطنية
تتوافق هذه التحولات مع الخطط الوطنية الطموحة في المنطقة. فالسعودية عبر «سدايا» (SDAIA)، والإمارات عبر المكتب الوطني للذكاء الاصطناعي، وقطر عبر مركز قطر للذكاء الاصطناعي، تعمل جميعها على بناء بيئة شاملة لتقنيات الذكاء الاصطناعي. فالمتصفحات الذكية تمثّل الواجهة الأمثل لتطبيق تلك الاستراتيجيات على أرض الواقع؛ فهي تجعل الذكاء الاصطناعي متاحاً لكل موظف وطالب ومواطن، من دون الحاجة إلى أدوات معقدة. كما يمكن استخدامها بأمان في قطاعات حساسة، مثل الطاقة والمصارف والصحة والتعليم.
مستقبل إنساني للتصفح
المتصفحات الذكية تغيّر طبيعة العلاقة بين الإنسان والآلة. لم يعد التفاعل قائماً على النقر أو الكتابة، بل على الحوار. المستخدم يتحدث ويسأل، والمتصفح يجيب ويشرح.
في ثقافة عربية تقوم على الحوار والقصص، يصبح هذا التفاعل أكثر انسجاماً مع طبيعة المستخدم. ومع تطور النماذج التي تفهم اللهجات العربية، من الخليجية إلى الشامية، ستزداد تجربة التصفح قرباً من الشخصية اللغوية والثقافية للمستخدم العربي.
في المستقبل القريب، سيصبح بإمكان المتصفح التكيُّف مع أسلوبك ولغتك واهتماماتك، بل وحتى تقديم نتائج تراعي السياق الثقافي والديني والاجتماعي الذي تنتمي إليه. وفي الشرق الأوسط؛ حيث تتقاطع الهوية الرقمية مع الطموحات الوطنية، تمثّل هذه الثورة فرصة حقيقية لأن تشارك المنطقة في صياغة شكل الإنترنت المقبل بدلاً من الاكتفاء بتبنّيه. فمع تطور البنية السحابية السيادية، وتعاظم قدرات اللغة العربية في النماذج الذكية، يبدأ فصل جديد من الحضور العربي في الفضاء الرقمي.