بداءت العلاقات الرسمية في مثل هذا اليوم مع اليمن ايام النظام الامامي بعهد الطاغية يحيى بن حميدالدين بمآرب و توترات داخلية وخارجية بعد خروج الاتراك من اليمن مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وهزيمة دول المحور ومنها تركيا وروسيا ومرور عقد على تعقيدات ما بعد الحرب العالمية الأولى لكلا البلدين، حيث
يحل اليوم 1 نوفمبر 2025م الذكرى السابعة والتسعون لتوقيع معاهدة الصداقة والتجارة بين اليمن والاتحاد السوفييتي، التي أُبرمت في موسكو في مثل هذا اليوم من عام 1928، وشكلت نقطة انطلاق للعلاقات الدبلوماسية بين البلدين، وإحدى أقدم الشراكات السياسية في تاريخ اليمن الحديث، فقد مثلت تلك المعاهدة في سياقها الزمني حدثًا استثنائيًا، إذ وقعت في مرحلة كانت فيها اليمن تسعى لتأكيد وجودها كدولة مستقلة ذات سيادة بعد قرون من الهيمنة الخارجية والعزلة السياسية، بينما كان الاتحاد السوفييتي في طور تثبيت مكانته كقوة دولية صاعدة بعد الثورة البلشفية، باحثًا عن حلفاء جدد خارج النظام الاستعماري الغربي الذي تقوده بريطانيا وفرنسا.
إن توقيع المعاهدة بين صنعاء وموسكو لم يكن مجرد اتفاق تجاري أو بروتوكولي، بل شكل إعلانًا مبكرًا عن ظهور اليمن لاعبًا دوليًا يحاول تجاوز دائرة النفوذ البريطاني في الجنوب والهيمنة العثمانية السابقة في الشمال، في وقت كان فيه ميزان القوى الإقليمي خاضعًا بالكامل لمعادلات الإمبراطوريات التقليدية، وقد قرأ السوفييت ذلك التحرك كفرصة لاختراق ما كان يسمى آنذاك بـ"الحديقة الخلفية لبريطانيا"، حيث كانت عدن قاعدة بحرية محورية في طريق التجارة الإمبراطورية نحو الهند، ومن ثمّ أصبحت اليمن أول منفذ للسوفييت على بحر العرب ومضيق باب المندب من البوابة السياسية، قبل أن يتحول الاهتمام لاحقًا إلى النفوذ البحري والعسكري في السبعينيات والثمانينيات.
وخلال العقود التالية، تطورت العلاقة اليمنية–السوفييتية إلى مستوى أعمق مع بروز جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، التي تحولت إلى واحدة من أهم الحلفاء الإقليميين لموسكو في الحرب الباردة، في مقابل الاصطفاف الأمريكي السعودي مع الجمهورية العربية اليمنية في الشمال وقد جعل ذلك من اليمن ميدانًا حيويًا للتنافس الدولي بين القطبين، حيث كانت عدن قاعدة استراتيجية للأسطول السوفييتي الخامس، فيما ظلت صنعاء تمثل البوابة السياسية للعالم العربي في وجه النفوذ الشرقي، ليشكل اليمن بموقعيه الجغرافيين وتناقضاته الداخلية لوحة مصغرة من الحرب الباردة ذاتها.
ومع انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، فقدت روسيا كثيرًا من مواقع نفوذها في المنطقة، إلا أن العلاقات مع اليمن لم تنقطع، بل حافظت موسكو على حضورها الدبلوماسي والسياسي من خلال دعمها لمبدأ وحدة اليمن بعد إعلانها عام 1990، ومشاركتها في مشاريع إعادة الإعمار، كما احتفظ المئات من الضباط والمهندسين اليمنيين بعلاقات أكاديمية وعسكرية مع الجامعات والمعاهد الروسية التي تخرجوا منها، ما جعل العلاقة تتخذ طابعًا مؤسساتيًا وثقافيًا متجذرًا أكثر من كونها ظرفًا سياسيًا عابرًا.
في العقدين الأخيرين، ومع عودة روسيا إلى المسرح الدولي كلاعب محوري، خاصة بعد تدخلها في سوريا عام 2015، برزت من جديد أهمية الموقع الجيوسياسي لليمن بالنسبة لموسكو، لاعتبارات تتعلق بتوازن النفوذ في البحر الأحمر وباب المندب، ومراقبة خطوط الملاحة التي تربط آسيا بأوروبا، كما تسعى روسيا اليوم إلى ترسيخ وجودها في منطقة القرن الإفريقي، خاصة عبر القواعد البحرية في السودان وإريتريا، ما يجعل اليمن جزءًا طبيعيًا من هذه المعادلة الاستراتيجية الممتدة من شرق المتوسط إلى خليج عدن.
وعلى الجانب اليمني، فإن استعادة الذاكرة التاريخية للعلاقات مع موسكو في هذه المناسبة لا تأتي من باب الرمزية فقط، بل تنطلق من إدراكٍ متجدد بأن التحولات الدولية الراهنة، وعودة الصراع بين المعسكرين الشرقي والغربي، تتيح لليمن فرصة لإعادة التموضع كجسر توازن بين القوى الكبرى، بدلًا من أن يكون مجرد ساحة صراع أو منطقة نفوذ، فروسيا، بخلاف القوى الغربية، تتعامل مع الملف اليمني بحذر براغماتي، إذ ترفض تصنيف الحوثيين كمنظمة إرهابية رغم انتقاداتها لهم، وتدعو إلى تسوية سياسية شاملة تراعي التوازنات المحلية والإقليمية، بما ينسجم مع سياستها القائمة على "الوساطة المرنة" في الشرق الأوسط.
وعلى المستوى الجيوسياسي الأوسع، فإن معاهدة الصداقة عام 1928 لم تكن مجرد وثيقة تاريخية، بل شكلت الأساس لما يمكن تسميته بـ"الاعتراف الدولي المبكر بسيادة اليمن"، وهو اعتراف اكتسب وزنه في تلك المرحلة لأن موسكو لم تكن جزءًا من المنظومة الاستعمارية، مما منح صنعاء شرعية دولية مستقلة عن الإرادة البريطانية أو العثمانية، واليوم، ومع اتساع نفوذ روسيا والصين وإعادة تشكل النظام الدولي نحو التعددية القطبية، يبدو اليمن أمام فرصة لاستثمار تاريخه الدبلوماسي الطويل مع موسكو في بناء شراكات جديدة تخرج عن النمط الأحادي الذي حكم علاقاته الخارجية خلال العقود الماضية.
إن الذكرى السابعة والتسعين لهذه المعاهدة تكتسب اليوم بعدًا استراتيجيًا يتجاوز التاريخ إلى الجغرافيا السياسية، فهي تذكّر اليمنيين بأن استقلال القرار الوطني لا يتحقق إلا بتنوع الحلفاء وتوازن العلاقات الدولية، وبأن موقع اليمن في قلب الممرات البحرية العالمية يمنحه قدرة فريدة على التأثير في معادلات الأمن الإقليمي والدولي متى ما امتلك رؤية سياسية مستقلة، ومن ثمّ، فإن استدعاء روح معاهدة 1928 هو استدعاء لفكرة السيادة قبل أن يكون احتفاءً بتاريخ دبلوماسي، وفكرة الانفتاح الواعي على العالم لا الارتهان له.
أ.د.عبدالوهاب العوج
أكاديمي ومحلل سياسي
جامعة تعز