أحياناً ليس من الضرورة أن يتفق الحاكم أو النظام السياسي من جانب وأجهزة الاستخبارات في ذات الدولة من الجانب الآخر، وعادة ما يحدث ذلك ظاهراً أو في الخفاء كما هو في النظام الأمريكي، ومن الممكن أن نستجلب كمثال واقعي على ذلك قصة اغتيال الرئيس جون كنيدي، والتي ربما تعمد الرئيس الحالي ترامب تسريب وثائقها مؤخراً لكشف واقع الخصان بينه وبين النظام العميق، وهي الوثائق التي تثبت في معظمها أن لوكالة لاستخبارات CIA يدا في اغتيال كنيدي.. وهذا التسريب أو الكشف المتعمد للوثائق بعد أكثر من ستة عقود من الزمن، بدا ويبدو لمن يقرأ الأحداث وكأنه ضربة متعمدة من ترامب لجهاز المخابرات، الذي يختلف مع سياسات ترامب، ويعمل في اتجاهات تتضارب مع مشروعه وخطابه العام، خصوصاً في التعامل مع قضايا وملفات أمريكا الخارجية..
لقد طرحت هذا التمهيد لأؤكد على فكرة أن كل المليشيات التي تتواجد في المنطقة العربية هي صناعة أمريكية بامتياز، وتحديداً وأكثر دقة من صنع وكالة الاستخبارات الأمريكية، التي تداول حضور وتمكن الجماعات والمليشيات حسب ما تراه في صالح بلدها وتعتقده فاعلا أسياسيا في مراعاة المصالح القومية لشعبها، سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا، وتحديداً في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، بالنظر إلى الموقع الجغرافي الحساس والهام من ناحية، وأيضاً إلى اعتبار المنطقة خزان وقود وخزنة ثروات هائلة، يسيل لعاب الأنظمة الموازية والخفية ليس في أمريكا وحسب، وإنما في أنظار معظم إن لم يكن كل أنظمة الغرب، ذلك الغرب الطامع الذي نهض من الرماد على سرقات الآخرين وأطعم شعوبه وألبسها وطور حياتها حد الرفاهية القصوى من نهب ثروات أولئك الآخرين ونتاجاتهم القومية منذ عصور الاستعمار الأولى..
لا خلاف على أن لكل رئيس أمريكي يصل إلى البيت الأبيض مشروعه ورؤاه التي يزعم أنه سيخدم من خلالها شعبه، ولا أظن أن رئيسا قد وصل لسدة الحكم أكثر صراحة من الرئيس الحالي ترامب.. إلا أن هذه الصراحة تؤذي كثيرا النظام الخفي والدولة العميقة للولايات المتحدة، ذلك النظام الذي يعتبر جهاز المخابرات هو ممثله على أرض الواقع.. والذي تشير معظم الدلالات إلى أنه من يقف وراء إزاحة ترامب في ولايته السابقة التي لم يسمح حتى لفترتها أن تكتمل..!! ومن هنا يأتي التباين الواضح بين ترامب وخطابه العام من ناحية، وبين ما تمارسه أجهزة الاستخبارات تحت غمام وغبار الأحداث العامة من سياسات تتعارض في الغالب مع ذلك الخطاب..
وعودا إلى ما سلف فإن المليشيات والجماعات التي تربى وتترعرع في منطقة الشرق الأوسط، والتي يظهر ترامب مناصباً العداء لها، هي أجهزة وأدوات بل وقوى تتأسس وتقوى وتغير معادلات الواقع، بشكل أساسي برعاية وتوجيه وتفعيل وكالة الاستخبارات الأمريكية CIA، وبالتالي فإن أي موقف لترامب أو لغيره تجاه هذه الجماعات، بما فيها جماعة الحوثيين في اليمن، يعد في نظر النظام الأمريكي الخفي أو الدولة العميقة، مجرد موقف شخصي، ولا يمكن أن يسمح له بالتعارض مع ما يرى وكأنه مصلحة عامة للدولة وللشعب الأمريكي.. ولن يسمح له بالإضرار الفادح بها، حتى وإن كان من قبل رئيس الولايات المتحدة الأمريكية..
ويبدو مؤخرا أن ترامب قد أدرك هذه الرسالة، وبدا فترته الحالية، كما بدأ فترته السابقة، بنوع من التحدي والإصرار على معاداة الجماعات والمليشيات واستهدافها، بما في ذلك مليشيا الحوثي الإرهابية في اليمن، الذي يشن عليها ضرباته بغرض القضاء عليها.. ولكن هل ينجح في مشروعه هذا وفي تحديه الصريح للنظام الأمريكي الخفي..؟ كثيرون وأنا منهم، لا يرجحون ذلك النجاح، وإن اضطر الأمر إلى إزاحة ترامب مجدداً، أو حتى التخلص منه واغتياله كما حصل مع الرئيس كنيدي.