في مثل هذا اليوم(21 مارس) من العام 1946، ولد علي عبد الله صالح لعائلة فلاحية في بلدة سنحان.. وعلى الرغم من تأثيره في التفاعلات التي شاهدتها ثورة 26 سبتمبر، وقد كان من بين المدافعين عن نظامها الجمهوري دون هوادة، إلا أن نجمه لم يسطع في سماء الجمهورية العربية اليمنية إلا في العام 1978، حين صار نائبا لرئيس المجلس المؤقت الذي شكل عقب اغتيال الرئيس أحمد حسين الغشمي، ثم في يوليو من العام نفسه انتخبه مجلس الشعب التأسيسي رئيسا للجمهورية.
نعترف بعجزنا عن الإحاطة بهذه الشخصية الفذة لنفيها حقها، ومن قبلنا ما قدر على ذلك كتاب كبار بكثرة ما كتبوا، تماما كعجز جوقة الكذب الحوثية التي تتضافر منذ أيام في سبيل حملة تشويه مخططة مقصودة، ضد صاحب الذكرى، في محاولة شاحبة لطمس بهاء ذكرى ميلاد ولد اليمن معه ولادة جديدة، على الرغم من عسر البداية. فما أن جلس على الكرسي الأول، بدأت تنتصب أمامه المحن الكبار، فبعد نحو ثلاثة أشهر دبرت محاولة انقلابية للتطويح به، وما كادت تخمد حتى وجد نفسه أمام حرب واسعة النطاق فرضها النظام الحاكم في الجنوب بجريرة تحقيق الوحدة اليمنية.. فضلا عن تحديات متأصلة في دولة الشمال منذ زمن بعيد، كالأزمة الاقتصادية وتخلف البنى التحتية، والصراع بين القوى السياسية والقبلية، وغير ذلك كثير.. استطاع التغلب على تلك التحديات بالعمل الذكي، فكك أحزمة العزلة، وفرض الاستقرار والأمن، والتفت إلى الموارد الطبيعية، وهو أول من أوجد لليمن شخصيتها الدولية بعد أن ظلت حدودها البرية والبحرية غير معروفة، وانفتح على دول العالم أجمع على الرغم من أنها كانت مقسمة بين معسكرين لدودين: رأسمالي، واشتراكي.. وبالجملة كان علي عبد الله صالح أبو النهضة التي عرفتها اليمن لأول مرة.
مثلما كان صانعا للمآثر عند البدايات الأولى لرئاسته، والفترات التي أعقبتها، فقد اختتم حياته بصنائع ومآثر لا يتجاهل أهميتها، أو لا يقلل من قدرها إلا مكابر، هل نأتي على بعض تلك الخواتيم الحسنة؟ سنفعل، ونوجز:
كان اليوم الأول من شهر رجب عام 1432هجريا، يوم جمعة.. في ذلك اليوم (=3 يونيو 2011) شاهدت العاصمة صنعاء العملية الإرهابية الأكبر في اليمن، والتي أودت بحياة 14 من رجال الدولة، وتسببت لنحو مائتين بإصابات خطرة، بلغ بعض منها مستوى العاهات المستديمة، ولم ينج منها رئيس الجمهورية الرئيس علي عبد الله صالح، الذي أصيبت مختلف أعضاء جسمه بحروق، جراء المتفجرات التي استخدمت في تلك العملية الشنيعة التي أختار لها أصحابها يوما هو عند اليمنيين ميقات لحدث مقدس، أي حين اجتمع أقيالهم قبل ألف وأربع مائة وثلاث وعشرين عاما بقرية الجند، اجتمعوا ليكتبوا رسالة للرسول محمد يبلغوه فيها أنهم مصدقون بالدعوة المحمدية، مسلمون لها، موالون لدولة المدينة.
في عشية اليوم الذي نفذت فيه العملية الإرهابية- وبعد أن فاق من غيبوبته في مستشفى مجمع العرضي، تكلم الرئيس بصوت متهدج، لكن الشعب كان يفهم ما يريد صاحب الصوت.. إن هذه العملية الإرهابية وقف وراءها أولئك الذين طالما سعوا إلى هدف كبير شنيع يفوق العملية الإرهابية، وهو جر البلاد إلى حرب أهلية لا تبق ولا تذر، بعد أن رأوا في الأفق بوادر حلول للأزمة السياسية تبقي على نظام السلطة والمعارضة، مع اختلاف المواقع وتبدل الأدوار.
قبل ذلك بنحو شهرين كان القوم يودون إدخال البلاد في أزمة أعمق من أزمتها السياسية.. وضعها عند شفا الحرب الأهلية.. دبروا ما عرف بمذبحة جمعة الكرامة في الثامن عشر من شهر مارس التي يتباكون اليوم بمناسبة ذكراها.. لكن الفرصة فاتتهم بسبب سوء تدبيرهم، حيث بدأت تظهر في نفس اليوم معلومات كشفت للرأي العام أنهم كانوا المخططين، والممولين، وهم مصدر الأوامر التي وجهت للمنفذين في جريمة قتل الشباب الذين حرضهم خطيب تلك الجمعة، وأكد لهم أن الجنة(خلف الجدار)!.
لقد أضحت الجريمة اليوم مكتوبة في سجلهم الإجرامي بشهادات الأوداء والأعداء على حد سوأ، وزادوا أنهم لما آلت إليهم الحكومة، أفرجوا عن المتهمين، ومحو الأدلة، كما فعلوا لاحقا مع المنفذين المباشرين لعملية جمعة رجب الإرهابية.
بعد أن فوت الرئيس علي عبد الله صالح عليهم الفرصة الأولى، جربوا الثانية، وهي تنفيذ العملية الإرهابية داخل جامع الرئاسة، فحققوا الهدف الآني، وهو قتل وجرح مائتين وأربعة عشر من قيادات السلطتين التنفيذية، والتشريعية، وقيادات عسكرية وسياسية، لكن الرئيس علي عبد الله صالح قطع عليهم الطريق الذي ساروا فيه لتحقيق الهدف الكبير المدمر، وهو إشعال نار حرب أهلية عامة.
من على سرير الوجع في ذلك المستشفى سمع الجميع الرئيس علي عبد الله صالح، وهو يوجه نائب رئيس الجمهورية (عبد ربه منصور هادي) أن يبقى يقظا، وحازما كفاية للحيلولة دون حدوث حرب، وأمر ابنه أحمد قائد قوات الحرس الجمهوري، وكل القيادات شديدة الولاء له، الامتناع عن القيام بأي ردود أفعال غير مرغوبة، والخضوع لنائب الرئيس والالتزام بتعليماته.
تعافى الرئيس علي عبد الله صالح، وعاش بعد ذلك سنوات مستريح الضمير كونه استطاع منع تحويل العملية الإرهابية إلى حرب مدمرة.. وفي ديسمبر2017 قدم حياته من أجل سلامة بلاده وحرية شعبه راضيا غير هياب، لكنه سيبقى حيا في أوساط شعبه، لا يختلف عنه في شيء سوى أنه لا يرى ما آلت إليه الأحوال في بلاده اليوم، ولا يحصي ضحايا وخسائر حرب أهلية ظل يعمل بكل ما أوتي من عقل وحكمة وقدرة، من أجل أن لا تشاهدها اليمن وهو على قيد الحياة.. سلام عليك علي عبد الله صالح يوم ولدت، ويوم عشت، ويوم استشهدت، ويوم تبعث حيا.